د. محمد مدحت مصطفى يكتب: النمط المصري للإنتاج (1- 11).. قضايا منهجية

تأتي هذه المجموعة من المقالات تلخيصاً لكتابي بذات العنوان (النمط المصري للإنتاج) والمنشور عام 2012م. وتتمثل البداية في طرح بعض القضايا المنهجية، حيث يُمكن إرجاع القدر الكبير من الاضطراب في الدراسات الخاصة بنمط تطور المجتمعات الإنسانية إلى وقوع الباحثين في خطأ كبير يتمثل في دوجما “ثبات القانون وحتميته”، على الرغم من سقوط مقولة حتمية القوانين والتحول إلى اللا حتمية (النسبية) منذ بداية القرن العشرين.

من المعروف أن القانون يظل صحيحاً طالما لم تتغير مُعطياته، فإذا ما تغيرت المُعطيات يُصبح من الطبيعي أن يتغير القانون.  وإذا ما كان الأمر يتعلق بقوانين تطور فإن البُعد الزمني التاريخي يُصبح العامل غير المُتحكم فيه ولا يتم التعامل معه، إنما يتم التعامل مع معطيات كل فترة زمنية تاريخية.

 فعلى سبيل المثال فإنه إذا كان القانون الخاص بالتطور الاجتماعي العميق يتوقف على مُركّبْ من العلاقات (الاقتصادية ـ الاجتماعية) مُتمثلة في مستوى تطورالعلاقات بين الإنسان والطبيعة (والمُتبلورة في أدوات العمل والمستوى التقني) من جانب، ومستوى تطور العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان (والمُتبلورة في نظم المِلكية والحكم) من جانب آخر. فإن هذا القانون يظل صحيحاً حتى تظهر مُتغيرات جديدة يُمكن إضافتها إلى مُركّبْ هذه العلاقات.

أما إذا أوصلتنا نتيجة تطبيق هذا القانون على أحد المجتمعات إلى نمط معين خاص بتطور هذا المجتمع فإن هذه النتيجة تظل صالحة بالنسبة للمجتمع الذي تم التعامل معه، ولا يصح نقل نتائج تطور هذا المجتمع وتعميمها على باقي المجتمعات الإنسانية وإلا تتحول هذه النتائج ذاتها إلى قانون، وهذا هو الخطأ المنهجي الكبير الذي وقع فيه غالبية هؤلاء الباحثين.

 ورغم وضوح هذه القضية المنهجية منذ تطبيقها على المجتمعات الأوربية لأول مرة لتصل إلى سُلم التطور الذي سلكته تلك المجتمعات من المشاعة البدائية إلى العبودية ثم إلى الإقطاع فالرأسمالية، حيث تم التحذير من تعميم النتائج مع القول تحديداً أن المجتمعات الشرقية سلكت طريقاً مختلفاً للتطور يتعين بحثه، وأن المجتمعات النهرية ذات طبيعة خاصة تتمركز حول إدارة النهر وهو ما لم يتوفر للمجتمعات الأوربية. فإن النتيجة السابقة التي تم التوصل إليها تحولت هي ذاتها إلى قانون حديدي فرض نفسه على تفكير الباحثين حتى ساد الاعتقاد الخاطئ بضرورة عبور جميع المجتمعات لهذه المراحل وصولاً إلى شاطئ الاشتراكية، تلك كانت المشكلة الأولى.

أما المشكلة الثانية فقد تمثلت في تحول خصائص كل مرحلة من هذه المراحل إلى نموذج قياسي غير قابل للتعديل، بمعنى أنه عند دراسة مرحلة معينة من مراحل تطور أحد المجتمعات والقيام بوضع فرضية أن هذه المرحلة هي مرحلة عبودية على سبيل المثال، فإنه يتم على الفور استدعاء خصائص النمط العبودي الأوربي ويتم القياس عليه لاختبار هذه الفرضية.

 الخطأ هنا أن نمط الإنتاج الرأسمالي هو النمط الوحيد الذي أمكن له الانتشار في جميع بلدان العالم تقريباً، مما يدفعنا إلى القول دون الوقوع في خطأ كبير أنه النمط الوحيد الذي اكتسب صفة العالمية، ومن ثم يُمكن القول بالنظام الرأسمالي العالمي، والرأسمالية العالمية وغيرها من المصطلحات المشابهة، ومن ثم فهو النمط الوحيد الذي اكتسب خصائص عامة عالمية يُمكن القياس عليها. بينما لم تكتسب الأنماط الإنتاجية الأخرى صفة العالمية، فنمطا الإنتاج (العبودي والإقطاعي) لم ينتشرا في جميع أنحاء العالم، فهناك العديد من بلدان العالم التي لم تعرف هذين النمطين من أنماط الإنتاج، ولكنها عرِفَت أنماطا أخرى خاصة بنمط تطورها هى، نتيجة للظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الخاصة بها. ومن ثم لا يصح القول بالنمط العبودي العالمي، أو النمط الإقطاعي العالمي.

كما أن نمط الإنتاج الاشتراكي الذي حاولت بعض البلدان تطبيقه وخلال أقصى سنوات ازدهاره (1917 – 1990م) لم يتمكن هو أيضاً من أن يكون نمطاً عالمياً، وعلى ذلك لا يُمكن القول بالنظام الاشتراكي العالمي فعندما كانت مجموعة تلك البلدان الاشتراكية تدخل في علاقات اقتصادية مع باقي بلدان العالم الرأسمالي فإنها كانت تدخل في إطار السوق الرأسمالي العالمي ووفقاً لقانون السوق وليس وفقاً لقانون التوجيه الذي كان يحكم تلك المجموعة من البلدان. 

ومن الناحية التاريخية نجد أن نمط الإنتاج العبودي تمت صياغته النظرية استناداً إلى خصائص هذا النمط في كل من دولة المدينة في اليونان، والدولة الرومانية في روما. بل أن النموذج القياسي (أي الذي يتم القياس عليه) تم صياغته أساساً استناداً إلى التحليل الاقتصادي والاجتماعي لدولة المدينة في أثينا.

أما نمط الإنتاج الإقطاعي فقد تمت صياغته النظرية استناداً إلى خصائص هذا النمط الذي ساد في أوربا القرون الوسطى، كما أن نموذجه القياسي تمت صياغته أساساً استناداً إلى التحليل الاقتصادي والاجتماعي للنمط الإقطاعي الفرنسي والإنجليزي تحديداً.

أما نمط الإنتاج الاشتراكي فقد تمت صياغته النظرية على أيدي المفكرين الاجتماعيين الأوربيين في القرن التاسع عشر، وتم بناء نموذجه النظري القياسي استناداً إلى التحليل الاقتصادي والاجتماعي للنمط الاشتراكي الذي تم تطبيقه في روسيا.

ومن ثم فإن خصائص النمط العبودي هي خصائص للنمط العبودي الأوربي، وخصائص النمط الإقطاعي هي خصائص للنمط الإقطاعي الأوربي، وخصائص النمط الاشتراكي هي خصائص للنمط الاشتراكي السوفيتي في روسيا، أما خصائص النمط الرأسمالي فهي الوحيدة التي يُمكن وصفها بالخصائص العامة.

وهناك ملحوظة هامة أخرى، وهي أنه بالنسبة لصياغة الأصول النظرية لكل من نمطي الإنتاج العبودي والإقطاعي نجد أنها تمت لنظامين قاما بالفعل في هاتين البقعتين من العالم استناداً للوثائق التي توفرت عنهما، وأنهما نظامان ظهرا نتيجة لعملية التطور الاجتماعي الطبيعي في البلدان التي ظهرا بها، ولم يظهرا نتيجة لدعوة مُسبقة إليهما، أو لتصور مُسبق من قِبلْ المفكرين الاجتماعيين في هذه المجتمعات. وذلك على العكس من نمط الإنتاج الاشتراكي الذي تكاملت العديد من عناصر بنائه على أيدي المُصلحين والمفكرين الاجتماعيين الثوريين في أوربا الذين رفضوا الآثار السلبية للنظام الرأسمالي في المراحل الأولى لتكونه، ومن ثم كانت دعوتهم نحو التغيير إلى هذا النمط الجديد.

ومن هنا يُمكن القول أن النمط الاشتراكي يكاد يكون النمط الوحيد الذي تمت صياغته والدعوة إليه قبل أن يظهر لأول مرة في روسيا عند بداية هذا القرن، وهو ما وضعه في مواجهة حادة مع النظام الرأسمالي السائد من جهة ومع بعض الأصول النظرية التي استند إليها من جهة أخرى. وفي ظل هذا المأزق لم يتمكن النظام الاشتراكي من إدارة الصراع مع ذلك النمط الرأسمالي القديم بمرونة كافية ودون الإطاحة ببعض العناصر التي أُعتُبِرَت رئيسية بالنسبة للنمط الجديد رغم أنه تمت صياغتها في زمن مختلف، وتحت ظروف مغايرة لظروف القرن العشرين.  

وعلى ذلك فإذا كان ظهور الإقطاع في اليونان وبلدان الإمبراطورية الرومانية يُمكن تفسيره بأنه نتيجة طبيعية لما آل إليه النمط العبودي في هذه البلدان فإن ظهور الإقطاع في العديد من المجتمعات الأوربية الأخرى لا يُمكن تفسيره بنفس هذه الطريقة، خاصة إذا ما تبين أن تلك المجتمعات لم تعرف النمط العبودي كنمط سائد، وأن ظهور الإقطاع بها يرجع إلى ظروف خاصة بنمط تطورها هى. ومن ثم فإنه يُصبح من الخطأ الكبير القول بأن هناك قانونا عاما واحدا لتطور المجتمعات الإنسانية (على الأقل حتى مرحلة ظهور الرأسمالية). أما القانون العام الوحيد المقبول من الناحية المنطقية فهو القانون القائل (بحتمية تطور المجتمعات الإنسانية) لأنها المجتمعات الوحيدة التي تملك إمكانيات التطور على سطح الكرة الأرضية. أما شكل هذا التطور واتجاهه فلا يُمكن أن يحكمه قانون واحد أو اثنان فلكل مجتمع إنساني قانونه الخاص بتطوره الذي قد يتشابه مع مجتمعات أخرى وقد لا يتشابه.

وعند الانتقال لمرحلة النظام الرأسمالي نجد أن الظروف الخاصة بنشأة ذلك النظام والمرتبطة أساساً بعالميته في مرحلة الرأسمالية التجارية تتيح أمامنا إمكانية البحث عن قوانين عامة تحكم نمط الإنتاج الرأسمالي. فارتفاع درجة الاتصال الدولي التي ترافقت مع نشأة النظام الرأسمالي ـ أي الكشوف الجغرافية وما ترافق معها من استغلال بلدان المستعمرات، ثم تطور أشكال هذا الاستغلال ـ أكسبته القدرة على نقل النمط الجديد من البلدان الأوربية التي نشأ بها إلى البلدان الأخرى مع ربط هذه البلدان بنمطه الرأسمالي الجديد. ومن هنا أيضاً كانت المرونة الكبيرة لنمط الإنتاج الرأسمالي في تغيير أشكال الاستغلال الذي تقوم به البلدان الرأسمالية المتقدمة للبلدان الأخرى مهما كان التباين في توصيف نُظمها، وتتعمق الآن بدرجة أكبر عالمية النظام الرأسمالي بارتفاع درجة الاتصال والتبادل التي تشهدها بلدان العالم.

هذا هو الطرح العام لِما نعتقد أنه يقف وراء نتائج غير منطقية وغير صحيحة لعدد كبير من الدراسات الخاصة بتطور المجتمع المصري. إلا أنه في نفس الوقت يجب التأكيد على أن هناك عددا من الباحثين حاولوا بشكل عِلمي جاد التخلص من هذه الأخطاء المنهجية حتى وإن جانبهم الصواب في بعض النتائج التي توصلوا إليها، فيجب أن يُسجل لهم شرف محاولة الخروج عن نص الدوجما السائدة في ذلك الوقت .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *