محمد البطاوي يكتب: مشروع قانون الزواج.. ظل الدولة الحاضر في كل شيء والغائب أيضًا
لا تعد نقطة “تمويل صندوق دعم الأسرة” أكبر خروقات مشروع قانون الزواج الذي تقدمت به عضو مجلس النواب المصري “هالة أبو السعد”. الحقيقة أن فلسفة ذلك المشروع وفقا لتصريحاتها ذاخرة بالتناقضات.
لعل أهم التناقضات هو إصرار الدولة أن تكون حاضرة في كل شيء من جانب ثم غائبة في الوقت ذاته من جوانب أخرى. ازدواجية ظهرت بوضوح في اعتبار المشروع أن الدولة مسؤولة عن الزواج وما يمكن أن ينتج عنه من مشكلات، ثم تملص المشروع نفسه من دور الدولة الأصيل بفرض تمويل المقبلين على الزواج صندوقا للإنفاق على الأيتام والمعوزين.
ترسخ تلك الفلسفة بشكل لافت لمنطق أبوية الدولة؛ التي يعرفها الباحثون السياسيون بأنها الدولة المهيمنة التي تتولى جميع شؤون الفرد الشخصية والعامة، فهي مسئولة عن الإسكان والصحة والبريد والهاتف وغيرها؛ لكن أكثر التعريفات تشاؤما لم تتخيل أن تلك الدولة ستتدخل في أكثر الأشياء خصوصية مثل الزواج.
وبديهي أن الدولة التي تريد التحول إلى دولة أبوية يجب أن تكون قوية قادرة على ذلك، لا أن تقوم بتحميل ذلك لفئات أخرى نظير السماح لهم بممارسة حقوقهم الطبيعية كالزواج.
الأموال لمن؟
يبرر مشروع القانون لتوجهاته بادعاء أن الدولة مسؤولة عن أطفال الطلاق والأسر الممزقة؛ لكنه يواجه حقيقة أن هناك قوانين تنظم النفقة من أموال الأب (المطلق)، كما يطرح سؤالا: هل يمكن القول إن المقبلين على الزواج بتمويلهم لذلك الصندوق ستسقط عنهم النفقة الواجبة لمطلقاتهم وأبنائهن مثلا؟ لو الإجابة بنعم فلماذا لم يتضمن مشروع القانون تعديلات تلغي هذه المصروفات، وإن كانت بـ”لا”، فلماذا يدفع إذن؟ وإذا لم يحدث انفصال مثلا؛ هل سيستعيد الزوج أمواله بفوائدها عندما يبلغ أبناؤه سن الرشد؟
هل التمويل تبرع للأيتام؟ هذا قطع أمر محمود، لكنه لا يمكن أن يكون إلزاميا، يعني لا يمكن إلزام المواطن بالتبرع ولو لصالح أكثر القضايا عدلا وإنسانية للسماح له بممارسة حقه الطبيعي. الحق الطبيعي هو أمر غير مشروط، لا يمكن تعليقه على تبرع أو تطوع.
ازدواجية حضور ظل الدولة وغيابه في آن واحد تتمثل في ترسيخ دور الدولة الأبوي من جهة بشكل عميق (أنا مسؤول عن طمأنة الآباء على زواج بناتهم) ثم التملص من دورها الأصيل من الجهة الأخرى بإلزام المقبلين على الزواج بتمويل صندوق للإنفاق على الأيتام والمعوزين.
لا يمكن القول كذلك إن ذلك المبلغ الإلزامي ليكون لأسرة الزوج وأبنائه الأيتام حال وفاته، إذ أن هذا دور شركات التأمين على الحياة مثلا، أو الجمعيات التكافلية، ولا يمكن أن نفهم أن الدولة ستقوم بدور الجمعية التكافلية وتفرض الاشتراك في تلك الجمعية بقوة القانون على المقبلين على الزواج.
الأمر الذي لم يتم توضيحه كذلك هو ما إذا كان هذا عقدا لزواج ثانٍ للرجل أو السيدة بعد طلاق أو وفاة الشريك أو بدون، بعد أن سبق لهما الدفع للصندوق في الزيجة الأولى دون الاستفادة مما دفع لعدم وجود أبناء مثلا، هل سيكون ملزما بالدفع مجددا؟
ربما تكون هناك عادات إنفاقية سيئة باذخة في (كثير من) الأعراس المصرية، لكنه لا يمكن للدولة أن تقرر بناءً على ذلك فرض مبالغ مالية كتبرعات عليهم، ماذا عن الفقراء الذين لم يكونوا لينفقوا تلك النفقات الباهظة؟
سرية المعلومات الطبية
مسألة “التمويل” غير المحدد ليست المشكلة الأكبر في القانون المزمع إصداره؛ حيث تضمن كذلك تشكيل لجنة برئاسة قاض، تتولى تلك اللجنة إصدار الموافقة على عقد الزواج بعد أن تتلقى بشكل مميكن نتائج التحاليل والفحوصات الطبية للمقبلين على الزواج.
تعصف هذه النقطة بحق المريض في سرية بياناته الطبية وحقه في عدم الإفصاح عن معلوماته الطبية، تنص “وثيقة حقوق المريض” على حقه في مناقشة البرنامج العلاجي للمريض بسرية، والحفاظ على سرية المعلومات والتشخيص والتحاليل والعلاج والسجلات الطبية”.
يمكن فهم أنه من حق طرفي الزواج معرفة الوضع الصحي لهما، لكن لجنة بكاملها تتداول الحالة الصحية لكل مقبل على الزواج كشرط لكي يكون مستطيعا الحصول على حقه الطبيعي في الزواج! أليس من الممكن أن يظل الأمر مثلا بين المقبلين على الزواج والطبيب؟ ويخبر الطبيب الطرفين بحالتهما الصحية (المطلوبة بدقة) لتحصل الموافقة من عدمها؟
أجور اللجنة وتكاليف الفحوص
غموض آخر يدور أيضا حول من يدفع أجور وتكاليف تلك اللجنة؟ نعلم أن القضاة من أعلى الفئات أجورا في البلاد، وبعض المتزوجين سيكونون قطعا من الشرائح الفقيرة.. فمن أين ستأتي أجور اللجنة ورئيسها القاضي؟ من أموال المقبلين على الزواج لتمويل صندوق دعم الأسرة؟ أم من الدولة؟
إذا كانت الدولة تمتلك أموالا تدفعها لتلك اللجنة فلماذا لا تدفعها مباشرة لصندوق دعم الأسرة بدلا من اللجنة “ويبقى يا دار ما دخلك شر”.. وإذا كان المقبل على الزواج سيدفع أجور تلك اللجنة؛ ألا يعتبر ذلك إجبارا للمقبل على الزواج على دفع أجر لجنة وقاض للسماح له بالحصول على حقه؟
سيكون إذن إجراءً آخر عجيبًا في أن ترسخ الدولة حضورها بفرض لجنة للموافقة على الزواج، ثم غياب ظل الدولة في الوقت نفسه بتحميل تكاليف تلك اللجنة للمقبلين على الزواج.
مسألة تكاليف الفحوص الطبية مؤشر ثالث على حضور ظل الدولة وغيابه في آن واحد، فالدولة من جانب تفرض الفحوص الطبية على المقبلين على الزواج، لكنها في الوقت ذاته تقر بضعف المنظومة الصحية، والمشكلات الاقتصادية التي لن تسمح لها بتوفير ذلك الفحص مجانا لغير القادرين. وهل سيكون الفحص طبيا فقط؟ أم نفسيا أيضا؟ خاصة في ظل إشارات خبراء اجتماعيين إلى أن معظم مشكلات الطلاق ناجمة عن أمراض نفسية وليس عضوية.
يعني ذلك أن الدولة الحاضرة في فرض الفحص الطبي، هي في الوقت ذاته غائبة عند تقديم ذلك الفحص في مستشفياتها مجانا أو بتكلفة منخفضة.
زواج المعارضين
مخاوف أخرى تلوح وسط الغموض الذي يكتنف طبيعة أعضاء تلك اللجنة المشكلة، إذا كان رئيسها قاضيا، فمن هم بقية الأعضاء؟ هل بينهم أعضاء أمنيون؟ في جهاز أمن الدولة تحديدا؟
هل يمكن أن تتحول الموافقة على الزواج إلى قرار أمني سياسي؟ هل من الممكن أن تتسع أعمال تلك اللجنة لتشمل الفحص الأمني (السياسي) إلى جانب الطبي، ونفاجأ مثلا أن اللجنة منعت زواج معارضين سياسيين؟
يعتبر الخوف من تغول الدولة مشروعا، فكثير من الكوابيس التي بدت بعيدة حتى في نظر المتشائمين من تغول الدولة تحققت، وفي مجالات من المفترض بداهة أن تكون مفتوحة للمجال المدني العام وليس التأميم، واستخدم النظام كثيرا من ذلك في العصف بمعارضيه.
عجز المنظومة الأبوية
مساعي النظام المصري في التحول إلى أن يكون أكثر أبوية وتدخلا وأن يكون حاضرا (في كل شيء) تسير عكس التيار في وقت تتجه فيه معظم الأنظمة العالمية إلى تمدين واستقلال الأجهزة المدنية وفك ارتباطها بالأجهزة النظامية، يعني مثلا أجهزة تمدين مثل الإطفاء والمرور والتسجيل المدني ومؤسسات كثيرة، والاعتماد على المجتمع المدني وجمعياته وتحريرها.
كما أن الأنظمة الأبوية الشمولية لابد أن تملك الوفرة المالية والبشرية التي يسمح لها بالتدخل والإشراف على كل شيء؛ وتأصيل فكرة أنها الوحيدة القادرة على إدارة الثروة القومية، وأن المواطن لا يستطيع تقرير مصيره إلا في إطار النظام القائم، ليبقى محتاجا دوما للدولة ومعتمدا عليها في كل شيء.
هل يملك النظام المصري إذن فائضا بشريا من القضاة يسمح له بأن يراجع القاضي كل حالة زواج وطلاق؟ هل هناك وفرة مالية؟ وفقا لتصريحات السلطة المصرية من أعلاها إلى أدناها: “لا”.
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أعلن أن عام 2021 شهد عقود الزواج بلغت 880 ألفا و41 عقدا، وحالات الطلاق سجلت 245 ألفا و777 حالة. أي أننا أمام مجموع حالات زواج وطلاق يتجاوز المليون و125 ألفا.
مع أعداد القضايا المتراكمة والعجز الواضح في أعداد القضاة لنظر القضايا المطروحة أمامهم أصلا، ما جدوى إضافة ما يزيد على مليون حالة يجب عليهم مراجعة زواجها وطلاقها؟
من الطبيعي في حالة مثل حالة مصر أن تتجه الدولة إلى المجتمع المدني ليعينها على الأوضاع القائمة، يعني مثلا السماح بجمعيات ومؤسسات مجتمع مدني حقيقية تعتني بالأطفال الأيتام وأبناء الطلاق، وليس مطاردة جمعيات أطفال الشوارع، أو دفع الجمعيات الخيرية والمكتبات والمنظمات إلى الإغلاق وتأميمها أو مصادرتها.
شبح الزواج العرفي
الخطر؛ أنه في مثل تلك الحالة، التي يكون فيها ظل الدولة حاضرا وغائبا في كل شيء في آن واحد، ينتهي في النهاية إلى انحسار وجود الدولة، والتحلل أكثر من القوانين بسبب التعقيدات، مثلا ربما ينتهي الأمر في مشروع قانون الزواج بإعطاء قبلة حياة للزواج العرفي، لنفاجأ بواقع مؤسف من ارتفاع حالات الزواج غير الموثقة، أو المشهرة بعيدا عن الدولة، في محاولة من الناس للهرب من تلك الأعباء والتعقيدات.
تكمن خطورة ذلك في أن التوسع في الزواج العرفي العائلي يعني أحيانا ضياع حقوق كثيرة للمرأة والأبناء، بدلا من الحفاظ عليها، إضافة التحرر من القيود القانونية الأخرى، بينها سن الزواج مثلا، وضوابطه التي تضمن كثيرا من حقوق الزوجة والأبناء، لنفاجأ بأن ظل الدولة يتلاشى ويتحلل بدلا من أن يكون أكثر حضورا.
إنهاء التناقض
تحتاج السلطات المصرية لبناء رؤية واضحة حول شكل الدولة في ظل إمكاناتها ومشكلاتها؛ المسؤولون المصريون لا يقولون إن الدولة تتمتع بفائض من القوة البشرية والمالية يمكنها من زيادة الحضور وتحمل المسؤوليات بشكل مهيمن وأبوي (تعتبر نفسها أبا لكل مواطن وتعرف مصلحته أكثر منه).
أما الدولة التي لا تتمتع بذلك الفائض وتواجه تحديات وعجزا في أعداد القضاة ومستشفياتها ومنظومتها البيروقراطية، فعليها أن تفسح المجال وتطلق الحريات للمجتمع المدني ومنظماته للعمل وتحمل المسؤوليات وتكتفي بالحد الأدنى الضروري لا أن ترهق نفسها وشعبها بالمزيد من التعقيدات.
بالطبع هذا الشرط ليس إلزاميا في كل الحالات، فهناك دول قوية وغنية تتمتع بوفرة بشرية ومالية ولكن رؤيتها هو عدم التغول على كل شيء وأن يكون دورها هو الحفاظ على التناسق والتناغم والتنظيم، وتفسح المجال للمجتمع المدني وتدعم الفئات المحتاجة بشكل يخرجها من دائرة الفقر.
لكن العكس ليس صحيحا، إذ لا يمكن أن تكون الدولة تعاني عجزا وفقرا ثم تصر على أن تشل حياة الناس بقوانين تزيد توغلها وتشترط موافقتها على كل شيء.
هناك حاجة إلى أن يوضح المشرع المصري رؤيته للدولة وتوجهه، هل يراها دولة ذات فائض ووفرة، أم كما يقول الرئيس لشعبه “فقراء أوي”؟. إذا كانت تلك الرؤية حاضرة وواضحة بشكل فعال عند النواب والمشرعين المصريين فإننا لم نكن لنرى ذلك المشروع الذي يتناقض مع وضع الدولة ومسار العالم وربما التاريخ.