كارم يحيى يكتب: معركة المحامين التونسيين ضد زيادة الضريبة واللحظة المصرية.. وكالة الدفاع عن المضطهدين (1 من 2)
هذا المقال بمثابة تقدير لنضالات المحامين في مصر وتونس، وفي كل مكان. هذه النضالات التي تتجاوز أعمال الوكالة مقابل أتعاب عن أفراد إلى الوكالة السياسية الوطنية دفاعا عن حقوق الشعوب والمضطهدين وسعيا من أجل الحقوق والحريات. وكما هي عند “المهاتما غاندي” الهند و”نيلسون مانديلا” جنوب أفريقيا و”مارتن لوثر كينج” الولايات المتحدة و”سعد زغلول” مصر و”الحبيب بورقيبة” تونس. وأيضا عند محامين آخرين من رموز تغيير عالم القرن العشرين. وأظنها وكالة عرفها التاريخ مقدامة جسورة، لا تتعثر في إتهام بـ “الفئوية” أو جدل حولها.
بيانان بفارق يوم واحد
ـ الجمعة 2 ديسمبر 2022 يصدر من مقر الهيئة الوطنية للمحامين بتونس العاصمة بيان عن مجلس الهيئة، وعقب اجتماعه، و باسم العميد الجديد الأستاذ ” حاتم المزيو”. يرفض البيان ما تسرب من قانون المالية لعام 2023 عن زيادة ضريبة القيمة المضافة من 13 إلى 19 في المائة على أصحاب المهن الحرة، ومن بينهم المحامي. ويحذر من أعباء تعهدات الحكومة لصندوق النقد الدولي بمقتضى اتفاق منتصف أكتوبر على المواطنين، سواء بالنسبة لزيادة الضرائب أو غلاء الأسعار أو الاتجاه لخصخصة وبيع مؤسسات وشركات عامة.
وينتهى البيان بالتعهد بأن “مجلس هيئة المحامين لن يقبل تحت أي ظرف يإجراءات تزيد من أعباء المواطنين ويعمق أزمة المحاماة” . ويعلن “استعداده لأقرار جميع التحركات النضالية المتاحة للدفاع عن المحاماة والحفاظ على المقدرة الشرائية للمواطنين وحقهم في النفاذ للعدالة والعيش الكريم والحفاظ على الحقو ق والحريات”.
..والبيان في صفحة واحدة.
ـ السبت 3 ديسمبر 2022 يوجه نقيب المحامين المصريين الجديد الأستاذ ” عبد الحليم علام ” وقبل اجتماعه بنقباء المحافظات في اليوم التالي وبدون اجتماع مع مجلس النقابة “رسالة مفتوحة من نقيب المحامين”. أكد النقيب في رسالته اعتراضه على التسجيل الإجباري لزملائه في منظومة الفواتير الإلكترونية تطبيقا لقانون صدرت بالفعل لائحته التنفيذيه، وتحددت نهاية مهلة التزام المهنيين به بحلول 15 ديسمبر الجاري. وجاء في الرسالة أن المحامين غير ملزمين بالتسجيل في هذه المنظومة مع استمرار نقابتهم في إطار لجنة المشكلة مع الحكومة النظر في الأمر. ودعت المحامين إلى “ضبط النفس وحتى يصدر القرار المطلوب من الضرائب والمالية دون أية ضغوط وبالتفاهم المثمر”.
وتضمنت رسالة النقيب أيضا هذه العبارات :” وقفات المحامين المشرفة لاتزعجني بل تزيدني ثباتا على موقفي وتمنحني القوة “.. و”إن المحامين مدركون لمحاولة بعض الفصائل التي تسعى إلى تسييس مثل هذه الوقفات لتحقيق أجندات سياسية على حساب المحامين. وهو مانثق أن المحامين لا يقبولنه بحال، وأنه كلما اقترب هؤلاء من أهدافهم للنيل من الحكومة والدولة كلما تباعدت بيننا وبين مفاوضي الحكومة أي حلول تفاوضية لإنهاء الأزمة”.
وفي ختام الرسالة جاء:” يجب علينا أن نثق في أنفسنا ووحدتنا. وقوة المحامين إنما تنبع من يقظتهم وعدم انجرارهم إلى معارك لاتخصنا وأجندات لا تمثلنا. فنحن أجندتنا وطنية ومصرية وعادلة “.
.. والرسالة في خمس صفحات، وقد وقعها النقيب كذلك بصفته “رئيس اتحاد المحامين العرب”. ولم ترد فيها كلمة واحدة عن الاتفاق الجديد بين الحكومة وصندوق النقد الدولي وتداعياته. وقد بدا وكأن النقيب يعارك داخل بيته ويدعو لنفسه استعدادا لانتخابات قربية بعد انتهاء استكمال ولاية سلفه المرحوم الأستاذ “رجائي عطية”. وعلى هذا االنحو، جاءت الرسالة حافلة بهكذا الكلمات :” ألاعيب وأذناب الشياطين” و “حائكو المؤامرات ” و” الحاقدون” و”المتربصون” و”السفالات” و”المكائد” و”الفساد والمفسدون” … إلخ .
فذلكة تاريخية
انتظر المحامون التونسيون نحو نصف قرن بعد تأسيس نقابة المحامين المصريين في عام 1912 حتى يصبح لهم تنظيمهم النقابي الجامع من غير الاختلاط بزملائهم الأوروبيين تحت عنوان ” الهيئة الوطنية للمحامين بتونس” (*). لكن هذا لا يغرى بتصور مكانة هامشية للمحامي والمحاماة في البلاد التونسية. بل يمكن القول بأن المحامين كان وظل لهم حضور مميز في الحياة السياسية والكفاح من أجل الاستقلال وقيادة الدولة الوطنية الحديثة. ويكفي أن نذكر في هذا السياق ” الحبيب بورقيبة” قياديا بالحركة الوطنية فزعيما لها بين عامي 1938 و 1956، وإلى جواره المحامي ” صالح بن يوسف” كقيادة وطنيه نازعته الزعامة ومقاليد ” الحزب الدستوري الجديد”، وبعدما تقلبت الأحوال بينهما من الانسجام إلى المنافسة والصدام. وفيما بعد أصبح المحامي “بورقيبة” رئيسا للمجلس الوطني التأسيسي المكلف بوضع أول دستور للجمهورية و مؤسسا ورئيسا لها بين عامي 57 و 1987.
ولم يكن غريبا أن تكون لثاني رئيس للجمهورية التونسية من بين المحامين “الباجي قايد السبسي ” تصريحات منشورة خلال ولايته بين عامي 14 و 2019 عن أهمية ” السر المهني” و”الحصانة ” للمحامي. وهو الذي زاول المهنة شابا ومناضلا وطنيا، ثم عاد إليها كهلا بعدما غادر مناصب رئيس مجلس النواب بدولة ما بعد الاستقلال في غضون عام 1991 وحتى عودته للمناصب رئيسا للحكومة بعد الثورة عام 2011، قبل انتخابه رئيسا للجمهورية عام 2014. ولعل من المفارقات أن يتولى رفيق له في مهنة المحاماة خرج بدوره من عباءة “بورقيبة” ـ وهو “محمد الناصر” ـ رئاسة برلمان بين 14 ـ 2019، ثم يصبح ثالث رئيس للجمهورية ولأسابيع معدودة ( كرئيس مؤقت ) بين وفاة ” السبسي ” في 25 يوليو وانتخاب رئيس جديد في أكتوبر 2019 من خارج المحاماة، وإن كان يقوم بتدريس القانون ( الرئيس الحالي قيس سعيد).
ويبدو أن ثقل المحامين في الحركة الوطنية والحياة السياسية قبل الاستقلال قد انعكس على وزنهم داخل المجلس الوطني التأسيسي المنتخب الذي وضع أول دستور للجمهورية بين 56 و1959 ، حيث كانوا 14 محاميا من بين إجمالي الأعضاء البالغ عددهم 98 فقط. وشكلوا الكتلة الثانية بعد المزارعين ( 19 عضوا) ، متقدمين بذلك على التجار وأساتذة الجامعات والمعاهد ( 11 عضوا لكل منهما) والموظفين ( 10 أعضاء ) والعمال (8 أعضاء ) و المعلمين ( 7 أعضاء ) ،وبالطبع الصحفيين ( عضوان اثنان).
“بورقيبة” المحامي سابقا يستهدف المحامين
وعلى الرغم من أن كون الرئيس “بورقيبة ” بالأصل محاميا، إلا أنه ما كادت تنقضى سنوات معدودة على تأسيس الهيئة الوطنية للمحامين إلا ووقع الصدام مع عميدها الأستاذ “الشاذلي الخلادي”. ووفق شهادات نشر تغطية لها الزميل الصحفي الأستاذ “المنجي الخضراوي” في نهاية عام 2009 لقدامى المحامين أمام مؤسسة لعالم من أبرز المؤرخين في بلاده “مؤسسة عبد الجليل التميمي للبحث العلمي والمعلومات ” المعنية بالتاريخ المعاصر لتونس فإن العميد ” الخلادي” صدر ضده حكم بالحبس ستة أشهر في عام 1961 . وهذا لأنه تجرأ على التفوه خلال مرافعته بقضية مدنية أمام المحكمة تتعلق إجبار الدولة مواطن يهودي على بيعها كازينو “البلفدير” الشهير بسعر رمزي بسؤال استنكاري تهكمي، هو :”وهل تريد الدولة أكل أموال الناس؟”.
ولما انتشرت هذه العبارة كالنار في الهشيم بين المواطنين التونسيين، وكانت هناك خلفيات خلافات سياسية وشخصية بين “بورقيبة” و”الخلادي” تعود إلى عقد الثلاثينيات والصراع بين قيادات الحزبين الدستوري القديم والجديد، فقد قامت وزارة العدل بحل مجلس الهيئة ونصبت عميدا مواليا، وهو “عبد الرحمان عبد النبي”. وظل التنظيم النقابي للمحامين التونسيين تحت سلطة لجان وعمداء معينين من السلطة التنفيذية حتى عاد صندوق الانتخاب للهيئة مع مجلس العميد ” منصور الشفي” عام 1983.
وإتساقا مع ورد في عرض باللغة العربية في مجلة “الفكر الجديد” التونسية بتاريخ 2 أبريل 2015 لكتاب “المحامون في تونس من الاستعمار إلى الثورة 1883 ـ 2011″ لباحث علم الاجتماعي السياسي ” إريك جوب” والصادر باللغة الفرنسية، يمكن القول بأن تأثيرات التيار “اليوسفي” القومي المعارض “لبورقيبة” عادت لتبعث وتتجلى من جديد مع انتخاب الرمز القومي المعارض المعروف في أنحاء العالم العربي الأستاذ “البشير الصيد ” لدورتين في (2001 ـ 2004) و( 2007 ـ 2010).
وهذا مع أن “جوب” يشير في كتابه إلى سلبيات طرأت على المحاماة بتونس مع عقد التسعينيات وأوائل عهد الرئيس “زين العابدين بن على” كظواهر مايطلق عليه “محامو الأعمال” و”السمسرة” وانقسام المحامين بين موالين للسلطة ومعارضين لها، فقد وصل إلى عمادة الهيئة جراء انتخابات 2010 الأستاذ “عبد الرزاق الكيلاني”، و الذي يوصفه الصديق المحامي الأستاذ “كريم المرزوقي” (**) بأنه مستقل ومقرب إلى “الإسلاميين”. كما انتخب المحامون من قبل لعضوية مجلس الهيئة المناضلة اليسارية المعارضة الأستاذة “راضية النصراوي”، كأول إمرأة تصل إلى المجلس في عام 1989. وهي التي يسبقها تاريخ مشهود من الدفاع في قضايا الحريات وحقوق الإنسان، دون تفرقة بين أي من التيارات السياسية، بما في ذلك من انتسبوا لحزب حركة ” النهضة ” المحظور والملاحق حينها.
محطات في تاريخ نضالي
في التاريخ النضالي للمحامين التونسيين وتنظيمهم النقابي محطات عديدة أخرى. ويصعب ألا نجد تحركا احتجاجيا معارضا لسلطتي “بورقيبة” وخلفه الرئيس المخلوع “بن علي” إلا وكان المحامون بين طلائعه وفي الصفوف الأولى ودفاعا عن ضحايا القمع من مواطنيهم، وذلك وصولا إلى ثورة 17 ديسمبر 2010 / 14 يناير 2011 ، وبما في ذلك إرهاصاتها في “سيدي بوزيد”. ومن قبلها احتجاجات ” الحوض المنجمي ” عام 2008. وكذلك الدفاع عن زميلهم الأستاذ “محمد عبو” الذي سجنه قضاء “بن على” بعد نشره مقالا يهاجم فيه استضافته للسفاح الصهيوني ” إريل شارون” بمناسبة انعقاد قمة المعلومات عام 2005.
ووفق رواية الصديق الأستاذ “محمد الجلالي” المحامي في شهادته لي ( غير المنشورة بعد) عن الأيام الأولى للثورة مدينة “سيدي بوزيد” فقد تجمع هو وزملاؤه في قاعة المحامين بمحكمتها الابتدائية يوم 21 ديسمبر، ثم خرجوا بأرواب المحاماة في مظاهرة شارك فيها 60 من إجمالي 80 محاميا في الولاية. وتوالى الخروج على هذا النحو بعد مصادمات مع قوات أمن حاولت اقتحام المحكمة في اليوم التالي.
ووفق الباحث “فتحي اليسير ” في كتابه ” معجم الثورة التونسية” الصادر عام 2012 الصفحات بين 248 و 250 فإن المحامين نفذوا وقفات احتجاجية متزامنة يوم 31 ديسمبر 2011 أمام كل محاكم الجمهورية التونسية، وعادوا إلى الإضراب في يوم 6 يناير. وفسر هذه “الدينامية السياسية المعارضة” للمحامين بقوله :” لفت تقدم المحامين الصفوف أنظار المحللين، وتمت الإشارة إلى تردي أحوال مهنة المحاماة في تونس، وماحاق بالمحامين من انسحاق اجتماعي. وبالإمكان القول أن محرك المحامين كان في جانب منه ما يعانونه من (حرمان نسبي )”.
حضور ما بعد الثورة
ولا أدل على استمرار حضور المحامين اللافت بين نخبة السياسة والحكم في تونس بعد الثورة، و على الرغم من بروز فئات أخرى كمعلمي المدارس وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين مع صعود دارسي ورجال الإدارة من التكنوقراط خلال العقود السابقة، من تقدمهم لقيادة العديد من الأحزاب السياسية بعد الثورة، كـ “محمد عبو” والشهيد “شكري بلعيد” و”عبير موسى ” وغيرهم. والأسماء الأخيرة جميعها تنتمي لأجيال ولدت بعد الاستقلال.
ولا يتجاوز عدد المحامين في تونس اليوم وفق جداول تنظيمهم النقابي العشرة آلاف في بلد فاق تعداده 11 مليون نسمة. ولكن تعاني نسبة مهمة من شباب المحامين كغيرهم في المجتمعات العربية الأخرى من المصاعب الاقتصادية والاجتماعية. علما بأن لهم كيانا نوعيا تأسس مطلع عقد السبعينيات من القرن العشرين يحمل تسمية “جمعية التونسية للمحامين الشبان “. ولاتقوم رابطة مؤسسية بينها وبين الهيئة الوطنية للمحامين التي تظل تحتكر تنظيم المهنة والتصريح بمزاولتها وتقديم الخدمات الأهم لكافة ممارسي المحاماة. وهذا لايقلل من تفهم الهيئة في الأغلب لأدوار جمعية الشبان وما تعبر عنه معنويا في مواقف وبيانات تتعلق بشئون المهنة والمحاكم والعدالة وحتى قضايا الحريات والحقوق في المجتمع بصفة عامة.
وفي العديد من المناسبات لاحظت خلال سنوات بعد الثورة أن مواقف الجمعية تأتي معززة للدور الرئيسي للهيئة إلى جانب المحامين في علاقاتهم بالسلطات، بما في ذلك السلطة القضائية. وأحيانا ما يبدو خطاب الجمعية أكثر راديكالية ووضوحا من الهيئة. بل عوضت جمعية الشبان الدور المفقود للهيئة حين هددت قوات أمن في ملابس مدنية مطلع أغسطس 2021 باقتحام “قصر العدالة” بالمحكمة الابتدائية بقلب العاصمة تونس ـ حيث مقر الجمعية والهيئة معا أيضا ـ للقبض على المحامي الأستاذ ” المهدي زقروبة” المعتصم بالهيئة محتجا على إحالته أمام القضاء العسكري، فيما صمتت الهيئة الوطنية وعميدها السابق الأستاذ” إبراهيم بودربالة ” حينها.
المحاميات في مجالس التنظيم النقابي
وفي سياق تقدم المرأة بتونس لاحتلال وزن ومكانة لافتين في مختلف المؤسسات والحياة العملية ومختلف مهن أصحاب الياقات البيضاء بالمدن، تشكل اليوم بدورها نسبة نحو 45 في المائة من عضوية الهيئة الوطنية للمحامين. ومع هذا ، فإن تمثيل المحاميات مازال محدودا في الهياكل القيادية المنتخبة لنقابتهم. فلم تتول إمرأة ولو لمرة واحدة منصب عميد الهيئة الوطنية للمحامين. وهذا على خلاف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين التي رأستها منذ كانت جمعية ثلاث صحفيات.
لكن انتخابات مجلس الهيئة الوطنية للمحامين الأخيرة في سبتمبر 2022 أسفرت عن زيادة ملحوظة وربما غير مسبوقة في تمثيل المرأة. فقد نجحت خمس محاميات من إجمالي 14 عضوا منتخبا على المستوى المركزي، بعدما كان بالمجلس السابق محاميتان اثنتان فقط. إلا أن المجلس الحالي كسابقة لم يعرف أي إمرأة على مستوى رؤساء الفروع الجهوية. وبذلك يصبح كل نصيب المرأة في مجلس الهيئة الحالي نحو 15 في المائة من إجمالي عدد أعضاء المجلس البالغ (33 عضوا)، ومن بينهم العميد الحالي، والسابق عليه ( وجوبا وبدون انتخابات). بل اللافت أيضا أن كافة الفروع لم تشهد تقدم مرشحة واحدة على منصب رؤسائها، وذلك باستثناء فرع المحامين بـ”الكاف” .
من المهني إلى العام
وبالعودة إلى الدور النضالي للهيئة الوطنية للمحامين بتونس، نتبين أنها كتنظيم نقابي نجحت في قيادة مظاهرات في الشارع أمام مقر الحكومة بالقصبة وإضرابات عامة عديدة لأعضائها بعد الثورة، سواء للضغط من أجل الحفاظ على المكاسب الاقتصادية والاجتماعية للمحامين، كمحاولات سابقة من الحكومات كعام 2016 لزيادة الأعباء الضريبية على المحاماة. أولضبط علاقة ظلت متوترة مع قوات الأمن بالمحاكم ومراكز الشرطة، وكما جرى في أكتوبر 2018 إثر الاعتداء على محامية في مركز شرطة في وقت سابق، وللتصدي لما يوصف بانفلات ” النقابات الأمنية ” ومن أجل حماية أعضائها. ويعد الإضراب عن العمل وتعطيل سير المحاكم بالطبع الخيار الأخير للنضالات النقابية بعد التفاوض ومختلف أدوات ووسائل الضغط.
وجاء منح الهيئة الوطنية للمحامين بتونس في عام 2015 جائزة “نوبل” للسلام مع بقية أضلاع رباعي المجتمع المدني ( اتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان واتحاد الأعراف / رجال الأعمال) بمثابة اعتراف بالدور السياسي للهيئة. وهذا بعد جهود هذا الرباعي بقيادة الاتحاد في التوسط بين الأحزاب لتجنيب البلاد عواقب إفشال مسار الانتقال إلى الديمقراطية.
ولإدراك انفتاح التنظيم النقابي للمحامين التونسيين على القضايا السياسية والمجتمعية نقدم نموذجين في مناسبتين كنت متابعا لهما في الإبان . الأول بيان الهيئة زمن العميد الأستاذ ” عامر المحرزي” في سبتمبر 2017 المعترض على تمرير البرلمان لقانون المصالحة الإدارية مع رجال عهد الرئيس المخلوع ” بن علي”. وقد وصف القانون بأنه ” يكرس الإفلات من العقاب والمحاسبة .. وينتكس بمسار الانتقال الديمقراطي”. والثاني بيان للهيئة بتاريخ 9 يناير 2018 في ذروة احتجاجات اجتماعية عنيفة بالعاصمة والعديد من المدن ضد غلاء الأسعار وقانون المالية لهذا العام. وقد منح البيان “مساندة مطلقة وغير مشروطة للاحتجاجات السلمية التي لاتنال من الأموال العامة والخاصة”. وطالب حكومة “يوسف الشاهد” بـ”التفاعل الإيجابي معها وإيجاد حلول بديلة وسياسة اقتصادية واجتماعية تعطي الأولوية للطبقات المفقرة والمهمشة”.
تسمح اقامتي كمراسل صحفي ” للأهرام” بتونس بين عامي 2016 و 2018 بتقديم بعض الملاحظات والافتراضات، وذلك استنادا إلى صداقات مع عدد من المحامين، والدخول إلى قاعات المحاكم والاختلاط معهم، ومجالستهم بمقاهي شارع ” باب بنات” العامرة بهم. ويمكن القول بأن “الصورة النمطية” للمحامي هناك تحتفظ له باحترام مقدر بين مواطنيه. كما ثمة تقاليد مرعية داخل المحاكم والنيابات، ومن بين مظاهرها صرامة التزام المحامين بالزي الموحد المميز بلونيه الأسود والأبيض مع أناقة الهندام. وهذا فضلا على تقاليد من التعامل باحترام مع المحامي داخل مقارات المحاكم، والتي تظل بدورها في الأغلب أفضل حالا وتجهيزا من مصر. ناهيك عن شمول استخدام الكتابة على الحاسوب ( الكومبيوتر) وصولا إلى محاضر الشرطة.
( يتبع في جزء ثان، يتناول المحامون ومكتسبات بعد الثورة، وتداعيات 25 يوليو 2021، وإطلاله على علاقتهم بتنظيمهم النقابي وما يقدمه لهم من خدمات ورعاية، ودلالات انتخابات هيئتها سبتمبر 2022، واحتمالات إدارة الأزمة الجديدة حول رفع الضرائب في قانون ميزانية 2023 )
ــــــــــــــــــــــــ
(*) في عام 2017 جرى الاحتفال بمرور 120 سنة على مهنة المحاماة التونسية ( يوم المحاماة) في قصر قرطاج بحضور الرئيس” الباجي قايد السبسي. لكن ثمة تاريخ معقد وملتبس للتنظيمات النقابية للمحامين في تونس المملكة تحت الحماية الفرنسية ثم الجمهورية التونسية اعتبارا من 25 يوليو 1957. وفي هذا تعددت المسميات من “ودادية للوكلاء” عام 1922 إلى ” جمعية الوكلاء ” عام 1929. ثم ” هيئة المحامين الفرنسية” والذي ترأسها تونسي للمرة الأولى هو “مصطفي الكعاك” عام 1947 يسيطر عليها الفرنسيون إلى ” جمعية للمحامين ” في عام 1952 .ووفق قانون المحاماة الصادر عام 1958 تشكلت ثلاثة هياكل نقابية للمحاميين في تونس العاصمة ومدينتي صفاقس وسوسة. وبحلول عقد الستينيات ولدت الهيئة الوطنية للمحامين . وهذا ما أمكن لنا تبينه في ظل مصادر عديدة متضاربة المعلومات، ومع كون الموقع الرسمي ” للهيئة الوطنية للمحامين بتونس” يفتقد إلى المعلومات الموثوقة الكافية وللدقة.
(**) “كريم المرزقي” محامي وباحث وكاتب تونسي شاب عمل من قبل في ” هيئة الحقيقة والكرامة ” المكلفة بملف العدالة الانتقالية بتونس بعد الثورة. وخلال إقامتي بتونس كمراسل “للأهرام” بين عامي 16 و 2018، وقد تصادف أن إنطلق افتتاح الجلسات العلنية لضحايا الاستبداد والفساد التي نظمتها الهيئة مع بداية هذه الإقامة. وحينها تعرفت على “كريم” وإخلاصه لقضايا الحقوق والعدالة الانتقالية، والتي للأسف اعتور مسارها سلبيات وعقبات من داخل الهيئة وخارجها حالت دون تحقيق الأهداف المنتظرة منها. لكن علاقتي لم تنقطع بهذا الشاب بعدما انتقل للعمل والتفرغ للمحاماة في بلاده مع مواصلة اهتمامه بالشئون العامة . ويدين هذا المقال ، وبخاصة الجزء الثاني، بالفضل لحوار طويل دار بيننا على البعد وأنا في القاهرة يوم 4 ديسمبر 2022 ، فضلا عن كتاباته وإسهاماته، ومن بينها مقالان له تحت عنواني : ” هل تعود المحاماة لدورها في صد التسلط ؟” ، المنشور بموقع ” الأجندة القانونية، بتاريخ 10 سبتمبر 2022 ، و” قراءة في انتخابات هيئة المحامين : هل تعود المحاماة الرسمية إلى الجادة ؟، المنشور في موقع” أولتراس تونس” بتاريخ 14 سبتمبر 2022.