د. زهدي الشامي يكتب: الصناعة المصرية.. الواقع والمشكلات وإمكانيات التطوير
بينما يوجد اليوم شبه اعتراف عام بضرورة أن تكون الصناعة ، بمعنى الصناعة التحويلية ، هى القاطرة الحقيقية للتنمية الاقتصادية للبلاد ، فمازال الوضع الراهن والسياسات الاقتصادية المتبعة بعيدين عن إمكانية تحقيق ذلك الهدف ، الذى يتطلب الوصول له تغييرات كبيرة فى السياسات المتبعة ووضع استراتيجية متكاملة للتنمية المعتمدة على التصنيع .
أولا – واقع الصناعة المصرية ومحدودية الانجاز
يظهر تتبع أوضاع الصناعة إنها قبل سياسة التحرير الاقتصادى منذ منتصف السبعينيات كانت القطاع الرائد فى التنمية ، وقد فقدت هذه المكانة بعد ” الانفتاح الاقتصادى ” وازداد وضعها سوءا فى ظل ” الإصلاح الاقتصادى ” .
١ – انخفاض الأهمية النسبية للصناعة.
فى الستينيات كان القطاع الأكثر ديناميكية فى الإقتصاد الوطنى ، وزادت أهميتها النسبية بمقدار ٢.٢ نقطة مئوية ، وعموما فقد تطورت بخط صاعد بعد الحرب العالمية الثانية وبلغ متوسط معدل النمو فى الصناعة فى الفترة ١٩٤٥- ١٩٧٠ حوالى ٥.٥ % سنويا . وكان النمو الصناعى مرتفعا بشكل خاص فى فترة تدخل الدولة خلال الخطة الخمسية الأولى ١٩٦٠-١٩٦٥ ، إذ بلغ ٨.٥ % سنويا .وقد ترتب على ذلك تغير ملحوظ فى الوزن النسبى الصناعة إذ صل فى نهاية تلك الفترة إلى ٢٢.٩ % من الناتج المحلى الإجمالي ، بعد أن كان
لا يتجاوز ٨ % فى عام ١٩٤٥ .
أن الاتجاه الأكثر درامية فى الإقتصاد المصرى فى ظل الانفتاح الاقتصادى وسياسة التوجه لرأس المال الأجنبى هو الاتجاه لانخفاض الأهمية النسبية للصناعة فى الناتج المحلى الإجمالي ، وقد ظهر هذا الاتجاه لأول مرة فى مصر فى السبعينيات ، على النقيض من الاتجاه السائد طوال فترة مابعد الحرب العالمية الثانية ؛ وكان هذا الانخفاض ملموسا .
فقد انخفضت مساهمة الصناعة فى الناتج المحلى الاجمالى فى الفترة ٢٠٠٦- ٢٠٠٧ – ٢٠١٦-٢٠١٧ فى المتوسط إلى ١٥.١٤ % فى المتوسط وهو تقريبا نفس المستوى المتحقق فى عام ٢٠٢١-٢٠٢٢ وفق بيانات البنك المركزى وقدره ١٥.٣ % . ويتضح من ذلك حدوث انخفاض ملموس فى الأهمية النسبية للصناعة خلال تلك الفترة الطويلة .
٢- العجز عن التوظيف
أن مساهمة القطاعات فى نمو الناتج المحلى الاجمالى وفى استيعاب العمالة غير متكافئة ، فبعض القطاعات ساهمت فى نمو الناتج فى سنوات مختلفة دون أن يكون لها نفس التأثير فى استيعاب الأيدى العاملة ( الصناعة فى الستينيات والبترول فى السبعينيات ) .
وعلى الرغم من التوجه للتصنيع فى الستينيات فلم ترفع الأهمية النسبية للصناعة فى هيكل العمالة الا بنقطة مئوية واحدة من ١٠.٣ % إلى ١١.٤ % .
ولم تتغير مساهمة الصناعة فى التشغيل تقريبا على مدار السنوات الماضية إذ بلغت فى المتوسط ١١.٢ % خلال الفترة ٢٠٠٤ – ٢٠١٦ .
٣- تراجع النصيب النسبى للصناعة فى إجمالى الاستثمارات .
فقد وصل النصيب النسبى للصناعة فى إجمالى الاستثمارات إلى أعلى معدل له فى سنوات الخطة الخمسية الأولى ١٩٦٠- ١٩٦٥ بما قدره 26.7% . وفى الخطط الخمسية التى نفذت منذ الثمانينيات انخفض على التوالى إلى ٢٣.٨ % ثم ٢٢.٢ % ، ثم ١٩.٣% . ثم اتجه لمزيد من الانخفاض وعلى مدار الفترة ٢٠٣- ٢٠٠٤ إلى ٢٠١٧ – ٢٠١٨ دار متوسط حول ١١ % . وقد هبط فى سنوات عديدة لدون الخمسة فى المئة. ووفق آخر خطط الدولة المعلنة من وزارة التخطيط عن العام القادم ٢٠٢٢-٢٠٢٣ فمن المستهدف أن تصل الاستثمارات للصناعة ٩٣.٥ مليار جنيه بما نسبته ٦.٦٧٨% فقط من إجمالى الاستثمارات . ومن نافل القول أن هذه النسبة المتدنية لا يمكن أن تقدم أساسا للزعم بأن الصناعة قاطرة التنمية .
وبشكل عام يلاحظ هنا خلل واضح فى توزيع الاستثمارات لغير صالح القطاعات السلعية وفى اتجاه ما يسمى قطاع الخدمات الإنتاجية . المستهدف فى الخطة المذكورة نسبة ٢٨.٢% فقط استثمارات للقطاعات السلعية ، مقابل ٤٢.١ % لقطاع الخدمات الإنتاجية من إجمالى الاستثمارات مستهدفة مقدارها ١.٤ تريليون جنيه .
٤ – تخلف وجمود هيكل الصناعة
يتضح من متابعة تطور هيكل الصناعة والأهمية النسبية للأنشطة الصناعات التحويلية أن الهيكل الصناعى المصرى لم يشهد تغيرات ملموسة فى اتجاه التطور للأمام مثلما سجلت الدول الناشئة التى سجلت نجاحات أكبر كالبرازيل فى أمريكا اللاتينية و سنغافورة وكوريا الجنوبية فى آسيا . وقد احتلت هذه الدول المراتب الأولى فى مؤشر ” التغير الهيكلى ” لمنظمة ” يونيدو ” لما حققته من تحول فى فى هيكل الصناعة فى اتجاه زيادة الأهمية النسبية للصناعة الثقيلة والصلب والسلع الوسيطة ومعدلات مرتفعة لنمو إنتاج السلع الاستثمارية بما يصل فى اتجاه تعميق التصنيع ، والتحول من النموذج البدائى لسياسة ” احلال الواردات ” إلى تعميق التصنيع والمزج بين احلال الواردات والتوجه للتصدير .
وبالمقارنة فى مصر يتضح ثبات هيكل الصناعة لدرجة كبيرة وعدم حدوث تلك التغيرات الإيجابية ، بل ربما وجدنا دلالات عكسية . فعلى سبيل المثال انخفضت الأهمية النسبية للصناعات الهندسية ذات الدلالة الكبيرة على تعميق التصنيع من ٣١% عام ١٩٧٩ إلى ٢٣.١٦% فقط عام ٢٠١٧ . وانخفاض نصيب الصناعات المعدنية الأساسية من ١٦.٤% عام ٢٠٠٢-٢٠٠٣ إلى ١٢.٩٩% فى عام ٢٠١٦-٢٠١٧ . بينما صناعة السلع الاستثمارية وخاصة الآلات ومعدات الإنتاج شبه غائبة .
٥- المساهمة السلبية فى التجارة الخارجية تصديرا واستيرادا .
يكمن أساس مأزق النمو الصناعى فى نموذج التنمية المتبع وأصحابه من استمرار تخلف الهيكل الصناعى . وفى حين تمكنت بعض الدول من اجتياز مرحلة ” إحلال الواردات ” ، فقد ساهمت السياسات الحكومية المتبعة حتى الآن على مفاقمة سوءات ذلك النموذج ، ومن المثير للدهشة أن التصورات الحكومية الراهنة لازالت بعد نحو ما يقرب من قرن من نشوء ذلك النموذج تدور حول الدعوة لاتباعه . ونتيجة لذلك فنحن نشهد وضعا تبدو فيه الصناعات المحلية وكأنها حلقة من سلسلة إعادة الإنتاج الموسع للصناعات الأجنبية . ويترتب على ذلك أن النمو الصناعى يؤدى على عكس ماكان مفترضا إلى المزيد من التبعية الخارجية ، ويصبح الاعتماد المتزايد على واردات الآلات والمواد الوسيطة المصدر الأساسى التبعية وعجز الميزان التجارى وميزان المدفوعات ، وبالتالى المشكلات والصعوبات المالية التى تقف فى النهاية أمام التنمية المستدامة ، كما أنه يجعل من استخدام تخفيض سعر صرف العملة لتقليل عجز الميزان التجارى وسيلة غير فعالة ، بل تؤدى العكس المقصود منها .
وبمتابعة بيانات التجارة الخارجية المصرية نصل فى هذا الصدد لاستنتاجات واضحة . فنسبة تغطية الصادرات الصناعية للواردات الصناعية على مدى السنوات التى نستعرضها متدنية : كانت حوالى ٥٦.٤ % فى عام ٢٠٠٤ وهبطت إلى ٤٥.٨ % فى عام ٢٠١٧ .
وتصل نسبة الواردات الصناعية لحوالى ٦٢% من إجمالى الواردات فى هذه السنوات .
ويزداد الوضع سوءا إذا نظرنا لوضع الصناعة المصرية من منظور المساهمة فى الصادرات عالية التكنولوجيا . وللأسف فإن مصر فى المرتبة الأخيرة بين الدول الداخلة فى المقارنة وتسبقنا حتى بعض الدول العربية الشقيقة كالمغرب . وبينما حصلت مصر وفق هذا المؤشر الذى ينشره البنك الدولى ويدل على نسبة الصادرات عالية التكنولوجيا لاجمالى الصادرات ، على أقل من ١% ( فقط .٧٦% ) كمتوسط عن السنوات ٢٠٠١ – ٢٠١٧) ، حصلت ماليزيا على ٤١.٤٢% والصين على ٢٥.٨٣% وإسرائيل على ١٥.٩٠ % والبرازيل على ١١.٢٢% ، واندونيسيا على ٧.١٦% ، والمغرب على ٥.٦٠ % ، وتركيا على ٢.٠٢% .
٦- تفكيك الصناعة المصرية
أسوأ ما تعرضت له الصناعة المصرية كان بالإضافة لكل ما سبق تعرضها منذ اتباع سياسات الخصخصة لتفكيك متزايد ثم لتصفية صريحة لحلقاتها الرئيسية . وقد امتدت الخصخصة منذ التسعينيات لعد كبير من الشركات الصناعية زاد عددها عن ٣١ شركة وتواصلت فى الفترات التالية خصخصة شركات صناعية منها قطاعات رابحة للغاية كالأسمنت كما نشهد حاليا خصخصة قطاعات أخرى كالأسمدة ، بينما تم تخريب شركات كبرى كانت من دعائم تعميق الصناعة كالمراجل البخارية ومؤخرا الحديد والصلب ، فى ظل اهمال شركات أخرى أساسية للغاية .