تقرير حول معاناة صغار الفلاحات في مصر: يواجهن التهميش الاجتماعي.. وسياسات “الإصلاح الاقتصادي” أثرت عليهن سلبًا
الباحثة هدير أحمد: النساء العاملات في القطاع الزراعي لا يتمتعن بالحماية الاجتماعية.. ويتعرضن لظروف عمل قاسية وعشوائية
التقرير: التغير المناخي أضاف أعباءً جديدة على كاهل صغار الفلاحين والفلاحات.. وأحدث تغييراً هيكلياً في البنى الاجتماعية والاقتصادية
التقرير: تتزايد في تلك الظروف احتمالات تعرض الفتيات لعنف جسدي.. ووصلت نسبة المعنفات جسديًا ونفسيًا من النساء العاملات بأجر نقدي إلى 3.2% عام 2015
كتب – أحمد سلامة
رصد تقرير حول قضايا التهميش لصغار الفلاحات في مصر، للباحثة هدير أحمد، الأزمات التي تعانيها المرأة الريفية تأثرًا بسياسة الانفتاح والتحرير الاقتصادي التي انتهجتها الدولة المصرية، والتي تسارعت وتيرتها في التسعينات مع بداية “الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي” تنفيذًا لاتفاقات مصر مع صندوق النقد والبنك الدوليين.
وقالت هدير أحمد، في تقريرها الذي نشرته “شبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية”، إن من الآثار المباشرة لتلك السياسات تسريح العمالة، وزيادة معدلات البطالة التي وصلت إلى 8.8% عام 1991 و9.9% عام 2018، وخفض الإنفاق العام الموجه للخدمات الاجتماعية، وتوسع الأنشطة الاقتصادية للقطاع الخاص والاستثماري على حساب انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي والخدمات. في القطاع الزراعي؛ مُنحت الأراضي التي يتم استصلاحها للمستثمرين المحليين والأجانب. وبات صغار الفلاحين مجرد مأجورين لدى أصحاب رأس المال والأرض. فكان أكثر من تضرر من تلك السياسات أولئك الذين لا يملكون إلا قوة عملهم من أجل الإنفاق على متطلبات الحياة من عمال وفلاحين.
وأضافت الباحثة “ارتفعت معدلات الفقر حتى وصلت إلى 29.7% (حوالي 30 مليون مصري) عام (2019-2020)، كما ارتفع معدل البطالة، وتشير تقارير المركزي للإحصاء إلى أن أكثر المُتعطلين عن العمل من النساء، حيث بلغ معدل البطالة بين النساء أربعة أضعاف المعدل بين الرجال عام 2010. ولمواجهة الفقر، تلجأ أغلب النساء إلى العمل في القطاع غير المنظم الذي بات يضم الآن 47.4% من قوة العمل في مصر. ومع استمرار السياسات الرأسمالية، ارتفعت نسبة الفقراء بين هؤلاء من 39.3% عام 2017/2018 إلى 43.1% عام 2019/2020.. يعمل منهن نحو 44% بالقطاع الزراعي”.
وتابعت “وتمثّل النساء تقريبًا نصف قوة العمل في القطاع غير المنظم في مصر. وقد أظهرت نتائج التعداد بمصر أن 30.3% من الأسر المصرية تعولها امرأة، 58.3% من هؤلاء المعيلات أميات، و89.9% منهن مشتغلات . فمع انتشار الفقر والبطالة يُزج بهؤلاء النساء في سوق العمل وهنّ غير مدربات أو مؤهلات مهنيا، لذا يلجأ أغلبهن إلى العمل في القطاع الزراعي، وهو القطاع الأول في سوق العمل غير المنظم. في الريف، يقمن بمهن العاملات الزراعيات، وتصنيع وبيع المواد الغذائية (الجبن ـ الالبان ـ مشتقات الحليب) كما يعملن في تربية الحيوانات والطيور وبيعها”.
وأشارت الباحثة إلى أن “النساء في هذا القطاع لا يتمتعن بأي نوع من الحماية الاجتماعية. فقد استبعدت المادة (97) من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 عاملات الزراعة البحتة من أحكام باب تشغيل النساء . لذا يتعرضن لظروف عمل قاسية وشديدة العشوائية”.
وحول التغير المناخي وتآكل أراضي الوادي والدلتا، تقول هدير أحمد إن “التغير المناخي أضاف أعباءً جديدة على كاهل صغار الفلاحين والفلاحات وعاملات الزراعة. فقد أدت التغيرات المناخية، وما صاحبها من ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض نسبة سقوط الأمطار، إلى جفاف التربة وتهديد خصوبتها. كما تزايد الزحف العمراني على الأراضي الزراعية القديمة (أراضي الوادي والدلتا) مع تراجع إنتاجية الأرض وارتفاع تكاليف الإنتاج، حتى تقلصت مساحتها إلى حوالي ٦.١ مليون فدان، مقابل زيادة مساحة الأراضي المستصلحة والتي تُمنح للمستثمرين المحليين والأجانب. وتقدرها أغلب البيانات الرسمية بأكثر من ٣.٥ مليون فدان . أدى هذا التقلص بدوره إلى تقزّم مساحة الأراضي الزراعية المملوكة للأسر الفقيرة، ما نتج عنه انخفاض نسبة صغار الفلاحين في مقابل زيادة نسبة المستثمرين الزراعيين! وأحدث تغييراً هيكلياً في البنى الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بطبيعة عمل الفلاحات وعاملات الزراعة”.
ويتعامل تقرير الباحثة هدير أحمد، مع قرية “مدمنت الجبل” إحدى قرى الظهير الصحراوي لمركز إهناسيا التابع لمحافظة بني سويف، باعتبارها عينة عشوائية تُبرز مشكلات الفلاحات المصريات.
يقول التقرير إن “سدمنت الجبل هي مجتمع مصغر من مصر، يتفشى فيه الفقر، وتتقلص فيه الأراضي الزراعية القديمة، في مقابل زيادة أراضي الاستصلاح الزراعي. تضم مئات عاملات الزراعة، اللاتي يعملنّ باليومية في (مشروع مبارك القومي لشباب الخريجين) لدى عدد من المستثمرين الزراعيين”.
ويستكمل التقرير “تتحمل هؤلاء المزارعات العبء الأكبر من مشكلات البلاد الاقتصادية، ما بين ارتفاع الأسعار وتراجع أسعار العملة وزيادة التضخم بمعدلات هي الأعلى منذ نوفمبر 2018. كما يواجهن ظروف عمل قاسية ومناخا صحراويا حادا”.
ويصف التقرير الأثر النفسي للعاملات إذ يقول في إحدى فقراته: “من الساعة الخامسة إلى السابعة صباحًا يتجمع بالمكان أكثر من مئتي عامل وعاملة، أغلبهن من النساء والفتيات الصغيرات، يفترشن الأرض بجانب بعضهن البعض، يكسو ملامحهن الهم والحزن، يكون المشهد أقرب إلى الطقوس الجنائزية.. قد تنتظر إحداهن لساعات قبل أن يختارها أحد المزارعين للعمل لديه”.
ويسترسل “تواجه العاملات الزراعيات بهذه المنطقة مشقة كبيرة للوصول إلى مكان عملهن، حيث يسكنّ قرى يبعد بعضها كيلومترات عديدة عن الجبل، ويعتمدنّ بشكل أساسي على (التوك توك) للوصول إلى مكان العمل، وهو وسيلة مواصلات عبارة عن صندوق صغير مكشوف لا يتجاوز طوله مترًا واحدًا وكذلك عرضه، ينقل الواحد حوالي 8-10 عاملات، وفضلا عن كونه وسيلة مواصلات غير آدمية، فهي أيضًا غير آمنة على الإطلاق في طريق صحراوي غير معبد.. كما قد يتطلب الأمر ركوب أكثر من وسيلة مواصلات، ما يسبب اقتطاع جزء ليس بالقليل من أجورهنّ اليومية المتدنية وغير الثابتة. فإن استطاعت إحداهن الحصول على عمل اليوم، لا تضمن أن يختارها أحد المزارعين للعمل في اليوم التالي. وقد تنتظر وتنتظر لساعات ثم تعود إلى بيتها خالية اليدين”.
وتنقل هدير أحمد، عن إحدى العاملات، وتدعى أرزاق جابر (32 سنة)، قولها “أتحمل ما لا يتحمله أحد لإعالة أسرتي وتربية أطفالي، فأنا مُطلقة وأعول ثلاثة أطفال بمفردي، كما أنني أسكن بالإيجار. ما يضطرني إلى الخروج للعمل من الخامسة صباحًا وحتى الحادية عشر ظهرًا”.
وتقول صباح أمين “والله شاربين المر.. عمري 57 سنة وأعمل عاملة زراعية منذ عشرين عامًا، اضطرني ضيق الحال للخروج إلى العمل لمساعدة زوجي وأبنائي”. تكسو كفيها التشققات والندوب، وتحمل بإحداهما منجلاً وتقول: “عايزين بس أي حاجه تساعدنا على العيشه، مفيش تأمين ولا معاش، نفضل نشتغل لحد ما نموت، إن تعبنا وبطلنا شغل نموت من الجوع” – حسبما نقل التقرير.
وتضيف رانيا شحات “رجالتنا يوم فيه ويوم مفيش، عندي بنت على وش جواز عايزه أجهزها، أجيب منين، شقيانين، نشتغل يوم ويوم نعاود من غير شغل، 50 جنيه.. 60 جنيه في اليوم هتعمل إيه في الغلا دا.. متشتريش حتى أنبوبة غاز، الانبوبة بـ 80 جنيه و 100 جنيه دلوقت؟ غير أننا بندفع فلوس كتير عشان نوصل لهنا، أنا من “البهسمون” يعني ممكن أركب مواصلتين ولا تلاته لحد هنا وادفع 10 جنيه بس في المواصلات”.
ويقول التقرير “تدفع أغلب تلك الأسر بأبنائها إلى العمل، وبخاصة الفتيات اللاتي يجبرن على إهمال دراستهن لمساعدة الأسرة، إما بالعمل خارج المنزل بأجور زهيدة أو بالمساهمة في الأعباء المنزلية وتعويض غياب الأب والأم عن المنزل للعمل. كما تتزايد في تلك الظروف احتمالات تعرض الفتيات لعنف جسدي، فقد وصلت نسبة المعنفات جسديًا ونفسيًا من النساء العاملات بأجر نقدي إلى 3.2% عام 2015 أي حوالي 96 ألف سيدة”.
وتختتم هدير أحمد تقريرها بالقول “تعمق السياسات الاقتصادية التي تُعزز الفقر وتدعم رأس المال، بالإضافة إلى التغيرات المناخية التي تواجهها البلاد، وتراجع خصوبة الأرض الزراعية وانتاجيتها، أزمة العاملات الزراعيات والفلاحات في الريف المصري.. وتُظهر الحالة المصرية بوضوح صارخ أهمية الانتقال الفوري إلى بديل السيادة الغذائية؛ حيث يدعم هذا النموذج صغار الفلاحين والفلاحات والزراعات الصغيرة في مواجهة المستثمرين والشركات الكبيرة، من ناحية السماح لهم/ن بتملك الأراضي. فحق النفاذ إلى الأرض من الركائز الأساسية للسيادة الغذائية، بالإضافة إلى مطالبة الدولة بتحديد أسعار المواد الغذائية بما يضمن لهم/ن تحقيق ربح معقول لتحسين ظروفهم المعيشية خاصة في ظل ما يواجهونه من منافسة شرسة مع الشركات الزراعية والتجارية الكبرى. كما ينادي بديل السيادة الغذائية بوقف استنزاف الموارد البيئية وزيادة تعميق التغيرات المناخية التي باتت تهدد ملايين الفلاحين/ ات في مصر بفقد مصدر رزقهم. ويراهن على قدرة صغار الفلاحين/ات على استغلال الموارد بطرق أكثر عقلانية لا يحكمها منطق الربح والمنفعة الاقتصادية”.