إلهامي الميرغني يكتب: دروس من زمن الكورونا.. حتمية تغيير السياسات الزراعية (1)
بداية الأزمة خرج علينا الدكتور علي مصيلحي وزير التموين ليرسل رسالة إطمئنان للمصريين بأن لدينا مخزون من السلع الاستراتيجية يتراوح بين ثلاثة وستة شهور. وبعدها صدر قرار بمنع تصدير البقوليات لمدة 3 شهور. وكلا التصريحيين في غاية الأهمية لدي ملايين المصريين في علاقتهم بتأمين غذائنا في ظل الأزمة ووقف حركة التجارة الدولية وفي ظل الاعتماد علي الخارج في تدبير العديد من المواد الغذائية وعلي رأسها القمح.
تبنت مصر منذ منتصف السبعينات سياسات زراعية تعتمد علي حرية السوق سواء التقاوي او الاسمدة والمبيدات او التسويق.ثم تم إلغاء الدورة الزراعية واصبحت هناك حرية في اختيار المحصول الأكثر ايراداً تبعه تغيير العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية لصالح الملاك ضد المستأجرين والتوسع في طرد فلاحي الإصلاح الزراعي والأوقاف من الأرضي التي تملوكها .
عشنا مراحل تجريف الأراضي الزراعية ثم تدمير المساحة الخضراء وتحويلها لأراضي بناء لأن السعر يتضاعف بالمئات.ثم اجهدت التربة الزراعية بالمبيدات والكيماويات إضافة لزيادة نسب الملوحة والتصحر الذي يزحف ليهدد المساحة المزروعة في مصر. وبدأ شح مياه الري وغياب الارشاد الزراعي وتلوث المجاري المائية واهدار المياه والاستمرار في اساليب الري بالغمر وتم تدمير الحركة التعاونية بمعناها وقيمها التعاونية، بل وصدر قانون يسمح للشركات المساهمة بالمشاركة بنسبة 30% من رأسمال التعاونية فكان ذلك آخر مسمار في نعش التعاونيات المصرية التي ظهرت عام 1907.
تواكب مع ذلك تحويل بنك التسليف التعاوني الذي تأسس بأموال الفلاحين والتعاونيات إلى بنك التنمية والائتمان الزراعي وأخيرا إلى البنك الزراعي وهو بنك تجاري لا يقدم أي دعم للفلاحين بل ويساهم في تعميق أزمة الزراعة المصرية. في نفس الوقت ظهر صراع بين نمط الإنتاج الفلاحي الصغير ونمط الإنتاج الرأسمالي.
عندما طرح يوسف والي استراتيجية زراعة الكانتلوب والفراولة والياسمين وبدأ تقليص زراعات القمح والقطن ثم الأرز والعدس والفول كانت ركيزة هذه الرؤية حرية التجارة وحرية الأسواق المفتوحة والاستفادة من فروق أسعار هذه السلع. والآن بعد مرور أكثر من 45 سنة علي تطبيق هذه السياسات أصبحت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم وتوقفت مصانع الزيوت نتيجة عدم توافر المواد الأولية وتحولت للتعبئة لزيوت مستوردة، وتم سحق المزارع الصغير لصالح الشركات الكبري والصوب الزراعية ووسائل الانتاج والري الحديث.
أصبح الريف يعاني وتمت سرقة الأصول الوراثية للنباتات والطيور والحيوانات، وأصبحت الزراعة المصرية التي كانت أقدم زراعة عرفها العالم تنتظر التقاوي من مونسانتو وشركات البذور والتقاوي الدولية، وأصبحت هذه البذور لا تصلح للاستنبات وتزرع لمرة واحدة.
نتيجة هذه السياسات أصبح الاكتفاء الذاتي من القمح لا يتعدي 34.5% عام 2017، الذرة الشامية 47%، الفول 30.7%، العدس 1.8% واللحوم الحمراء 55.9%، والأسماك الطازجة 85.6% والدواجن 91.5%. وبذلك تعتمد مصر علي تغطية العجز من خلال الاستيراد ومشاكل تدبير العملة الصعبة وفساد بعض المستوردين واستيراد الأقماح المسرطنة والاستدانة من الداخل والخارج لاستيراد السلع الضرورية التي كنا نزرعها وتوقفنا.
والآن بعد توقف حركة التجارة الدولية ولو استمرت الأزمة لمدة سنة حتي يتم إكتشاف مصل لفيروس كورونا وبدأ استخدامه. كيف تؤمن مصر احتياجاتها الغذائية ؟! في ظل توقعات بمغالاة الدول المصدرة في الأسعار في نفس الوقت الذي تلقي فيه بعض الدول المحاصيل في المحيط لتحافظ علي أسعارها المرتفعة أو لاستزراع الدول الفقيرة لبعض المحاصيل لاستخدامها كوقود حيوي للحفاظ علي احتياطياتها من الخامات الأحفورية.
علي صعيد آخر بين عامي 2014 و 2017 انخفض متوسط استهلاك الفرد في مصر في العديد من المحاصيل النباتية منها المحاصيل النشوية من 30.4 كيلو جرام للفرد في السنة عام 2014 إلي 28.1 كيلوجرام في عام 2017 ، المحاصيل السكرية والعسل من 6.9 كجم إلي 5.1 كجم ، المحاصيل الزيتية من 2.3 كجم إلي 1.8 كجم ، البصل والثوم من 22.2 كجم إلي 20.7 كجم ، الخضروات من 112 كجم إلي 79.3 كجم والفاكهة من 79.9 كجم إلي 62.9 كجم .
لذلك انتشرت أمراض الانيميا والتقزم وفقر الدم بين المصريين وخاصة بين الأطفال ، كما أن الهبوط الحاد في متوسط نصيب الفرد من الخضروات والفاكهة يضعف أجهزة المناعة ويجعل المصريين عرضة للأمراض والاصابات البكتيرية والفيروسية.لقد فقد المصريين بين 2014-2017 في الخضروات 32.7 كجم و 17 كجم من الفاكهة كمتوسط للفرد.ذلك بخلاف سوء التوزيع وسلاسل التجارة من المزرعة وحتي المستهلك النهائي.
هذه هي نتائج تطبيق السياسات الرأسمالية في الزراعة بجانب ارتفاع نسب التلوث وتدهور أحوال الفلاحين وعمال الزراعة وزيادة معدلات الفقر في الريف المصري.كما غاب التصنيع الزراعي واغلق العديد من مصانع تجفيف البصل وتم حصار صناعة السكر المصرية رغم عراقتها وخبرتها وكذلك صناعة الزيوت والغزل والنسيج والكتان، وتراكمت المخلفات الزراعية واصبحت مصدر للتلوث والأمراض.وأرتفعت معدلات الفقر في الريف.كل ذلك بسبب السياسات الزراعية الرأسمالية التابعة والمعتمدة علي الأسواق المفتوحة وحرية التجارة .
لذلك يبقي السؤال : ماذا لو استمر الحصار الاقتصادي الذي خلقه كورونا، والقيود علي حركة التجارة الدولية لمدة سنة أو أكثر ؟! وهل السياسات الرأسمالية التي دمرت الزراعة المصرية وحولتنا من الانتاج إلى الاستيراد قدر لا فكاك منه أم اختيار وانحياز اجتماعي ؟! وهل يمكن تغييره؟!
كيف يمكن لمصر تأمين الاحتياجات الغذائية لمائة مليون مصري يعيشون داخل مصر وتأمين احتياجاتهم الغذائية لمدة ستة شهور أو أكثر ؟! ألا يستدعي ذلك ولو من باب التجربة أن نفكر في إصلاح أوضاع الزراعة المصرية بطريقة مختلفة ؟!
ذلك هو ما ساحاول عرضه واستكماله في الجزء التالي من المقال .
إلهامي الميرغني
3/4/2020
وما تنساشي يارفيق التطبيع الزراعي مع العدو الصهيوني ومراكز الابحاث الزراعية الصهيونية والتى كان متواجد احداها وسط زراعات السنطة بالغربية عندنا