أحمد طه النقر يكتب: حتى إذا بلغت الحلقوم؟!..
في فيلم “للحب قصة أخيرة” للمبدع الراحل رأفت الميهي، مشهد عبقري ودال لعجوز تحتضر جاءها القسيس ليلقنها كلماته الأخيرة تسليماً بنهاية رحلتها في الحياة الدنيا.. قال لها “صل يا بنتي”، ولكنها ردت عليه بأعلى طبقة في صوتها الواهن “أنا مش عايزة أموت، أنا عايزة دكتور”!!..
وفي أغنية “يا أما مويلي الهوا” للمبدع الراحل أحمد فؤاد نجم، يعبر الشاعر عن أشواقه وشجونه وهمه المقيم قائلا “سألت شيخ الطريقة *مارضيش يجاوب سؤالي.. ودارى عني الحقيقة *وفاتني حاير في حالي.. سألت شيخ الأطبا * دوا الجراح اللي بيا.. نظر لي نظرة محبة * وقال دوايا في إيديا..!!
موقفان دراميان كاشفان يؤكدان حقيقة أن الحياة هى أغلى ما نملك وأن الأطباء هم الأصدقاء الحقيقيون الذين نحتاجهم وقت الشدة وليس أي فئات أخرى مهما كانت أهميتها، أما رجال الدين ومشايخ الطرق فإن مهمتهم جليلة ومقدرة ولكنها غالبا تختص بما بعد الحياة!!..
ولعل الدرس الأول والأهم الذي أكدته كارثة “كورونا” هو ضرورة العودة للاهتمام بالبديهيات مثل الإلتزام بالنظافة الشخصية والعامة والحرص على تناول الغذاء الصحي ومراجعة الطبيب عند الضرورة فضلا عن أهمية تطبيق الاستحقاق الدستوري الذي يلزمنا برفع مخصصات التعليم والبحث العلمي في موازنة الدولة إلى الحد الأعلى الممكن.. فالارتقاء بمستوى التعليم سيوفر لنا الأطباء وهيئات التمريض والباحثين الجادين المسلحين بالعلم، وهؤلاء هم حائط الصد الحقيقي وطوق النجاة الذي بحثنا عنه ولجأنا إليه عندما دهمنا الوباء وحلق طائر الموت فوق الرؤوس وبلغت الروح الحلقوم..
لكن المؤسف أن الحكومة لم تكن منصفة أو على مستوى الحدث عندما اضطرت، تحت ضغط التقدير والامتنان البالغ لما يقدمه الاطباء وهيئات التمريض من جهد وتضحية تصل حد الاستشهاد ومطالبات كل فئات الشعب بتعويضهم وإنصافهم ماديا، إلى منح بعض الحوافز المادية المتواضعة، بل والمهينة، لهؤلاء الأبطال الساهرين على خط المواجهة مع عدو قاتل وخطير!!.. وكان يجب رفع بدل العدوي إلى ألفي جنيه شهريا على الأقل واعتبار من يتوفاه الله نتيجة إصابته بالعدوى شهيدًا للوطن تحصل ورثته على نفس معاش الضابط الشهيد في القوات المسلحة، ويتمتع أبناؤه بكل امتيازات أبناء الشهداء، وذلك حتى ننصفهم، ونحاول اقناع عشرات آلاف الاطباء الذين يسعون للهجرة بالبقاء في بلدهم وانقاذ المنظومة الصحية التي تعاني من نقص خطير ومريع في عدد الأطباء..مع العلم أن دول الغرب وخاصة أمريكا وألمانيا فتحت أبوابها لاستقطاب الأطباء المتخصصين من كل أنحاء العالم، وأسقطت كل العوائق التي كانت تحول دون إنتقالهم إليها وحمل جنسيتها ودعم المنظومات الطبية لديها، وذلك بعد الانتشار الكارثي لفيروس كورونا الذي غير استراتيجيات وطرق تفكير العالم الذي بات على يقين بأن حياتنا ما بعد كورونا لن تكون كما قبلها.. وأخشى أن نفيق بعد فوات الآوان على هجرة جماعية لما بقى من أفضل أطبائنا مما سيكون له عواقب وخيمة على منظومة طبية متداعية وفقيرة بالفعل!!..
ومن المأمول أن تغير محنة كورونا مواقف وطرق تفكير كثير من الحكام الجهلة في العالم، إلا من رضى عن جهله ورضى جهله عنه، الذين لا يؤمنون بأهمية وحيوية العلم والتعليم، وتدفع الحكومات إلى الاستثمار في تعليم وتأهيل مواطنيها وحسن اعدادهم لما هو نافع ومفيد وصالح للحفاظ على الحياة والقضاء على ثالوث الجهل والفقر والمرض.. ولعل حكامنا يستوعبون درس أمريكا وتجربتها في مواجهة تفشي كورونا..فالواضح للكافة أن أمريكا يحكمها سمسار جاهل (واعتقد انه معتوه وذلك يمكن تبينه بسهولة تامة من لغة الجسد) ومعادي للعلم ولا يعرف سوى المصلحة المادية وذلك أيضا واضح من كل سياساته وتصرفاته، سواء في اعتبار جيش بلاده مرتزقة يوفرون الحماية لمن يدفع أو في سياساته العنصرية المكشوفة وفي عدائه للمرأة والأقليات والهجرة.. فقبل أسبوعين من تفشي كورونا في أمريكا قرر دونالد ترامب تسريح مجموعة عمل خاصة بمقاومة الأوبئة وتضم نخبة من الأطباء المتخصصين، من البيت الأبيض لأنه اعتبر عملهم مكلفا وغير ضروري!!..كما تأخر كثيرا في تطبيق الحظر والإجراءات الاحترازية وخاصة في نيويورك، بؤرة التفشي الرئيسية، خشية توقف النشاط الاقتصادي وتقلص أرباح الشركات الكبرى ومنها شركاته المتمركزة في نيويورك بصفة أساسية!! ..ولكنه اضطر تحت ضغط الانتقادات الموجهة لطريقة إدارته الازمة، ووطأة سرعة انتشار الوباء إلى اتخاذ قرارات استثنائية مناقضة لقناعاته مثل توجيه بعض الشركات الكبرى لإنتاج أجهزة التنفس الصناعي بدلاً من الأسلحة.. كما فتح أبواب بلاده أمام الأطباء وهو المعادي الشرس للهجرة.. فقد أدرك ترامب العنصري حتى النخاع (مازال يسمى فيروس كورونا بالفيروس الصيني في تسييس سافر للحرب الكونية ضد الوباء) أن الجيوش وترسانات الأسلحة والقواعد العسكرية التي لا تغرب عنها الشمس، بلا أدنى قيمة عندما يحدق الخطر بالبشر وتصبح حياة الناس على المحك.. ونأمل أن يدرك ذلك كل حاكم لا يؤمن بأهمية العلم والتعليم وخاصة حكام عالمنا الثالث..
وفي الأخير.. يمكن القول بضمير مستريح أن الراسمالية، التي يمثل ترامب بافكاره وسياساته النيوليبرالية المتوحشة أشرس مراحلها، سقطت أخلاقيا في اختبار كورونا وذلك موضوع آخر..