د . زهدى الشامي يكتب : أزمة النموذج الإقتصادى بين مصر والبرازيل
استهداف 10% فقط من السكان
أو نظرية بلجيكا والهند
لعله لم تعد خافية حقيقة المأزق والأزمة التى يعانى منها الإقتصاد المصرى اليوم . فبعد سنوات من التغنى بالإنجازات أو الوعود بها ، تحول المشهد بشكل درامى إلى إقرار واقعى معلن عنه صراحة حتى من جهات الحكم بالمأزق الذى تواجهه البلاد ، وهو مأزق ترجعه الحكومة فقط للوضع الدولى متمثلا فى أزمة كورونا أولا ثم حرب أوكرانيا ثانيا ، ولكننا كنا فى الواقع من بين من أشاروا مرارا لحتميته بسبب عقم أسلوب النمو المنتهج فى البلاد طول السنوات الثماني الماضية ، وفى الواقع وماقبلها أيضا ، ولطالما حذرنا منه لاسباب ظاهرة . ومن المهم اليوم إزاء صعوبة الأوضاع ، ايضا بمناسبة مايجرى الحديث عنه من حوار وطنى ، أن نعود لتفسير الأسباب الحقيقية لذلك المأزق ، حتى نصل لتشخيص صحيح للمرض قبل طرح علاجات خاطئة لن تزيده سوى تفاقما .
وفى الواقع يهمنا هنا أن نشير لما نعتقد انه جوهرى للغاية ، وهو أمر لم يعد بدوره خافيا عن انظار المتابعين المدققين .
النموذج الرث الراهن إنما استند فى الواقع كما هو معروف تماما للتوسع غير المسبوق فى الاشغال العامة من طرق وكبارى ، وللتوسع غير المحدود فى مدن جديدة على راسها مايسمى العاصمة الادارية وعلمين جديدة وغيرها ، مع إهمال واضح للقطاعات الإنتاجية زراعة وخصوصا الصناعة التى يجرى تفكيكها وتصفيتها علنا .
على إن السياسات الرثة للتوسع فى العقارات باعتبارها وفق فهمهم قاطرة التنمية ، لم تستند فقط لمجرد الإقتناع بالأفكار المبسطة الخاطئة حول أفضلية هذا القطاع العقارى باعتباره وسيلة للعائد السريع بالمقارنة بالصناعة التى تتطلب سنوات أطول للحصول على العائد ، وفق ماتم التعبير عنه فى تصريحات رسمية معروفة ، بل استندت ايضا لنمط لتوزيع الدخل اكثر سوءا تتركز فيه الثروة والدخل والقدرة الشرائية فى ايدى نسبة محدودة من السكان يقدر أنها لاتزيد عن 10% . ويعترف بعض النابهين من الملمين بالسوق أن هذه ال10% هم من توجهت لهم بشكل حصرى تقريبا سياسة بناء المدن الجديدة والعقارات الفارهة والفاخرة على اعتبار أنهم يملكون الأموال للشراء سواءا للسكن أو للاستثمار باعتبار شراء العقار هو الوسيلة المفضلة للإستثمار للمستقبل فى الإقتصاد المصرى العليل .
المشكلة العويصة التى يعانون منها اليوم أن تلك السياسة غير المتبصرة وقصيرة النظر والتى تتوجه لأقلية محدودة منحية جانبا أغلبية الشعب وبالتالى الكتلة الاكبر من الطلب المحتمل الذى يحرك الإقتصاد ، وصلت سريعا لمأزقها المحتم باطلاقها عملية تضخمية غير مسبوقة قرضتها تلك السياسات العشوائية نفسها ، تصاعدت معها أسعار العقارات بدرجة فلكية ووصل معها سعر الوحدة العقارية مساحة١٥٠ مترا إلى مايصل إلى 4.5 مليون جنيه ، بحيث أصبح ال10% من السكان المستهدفين بالنشاط فى وضع يعجزون فيه أو لايرغبون بالمخاطرة بالشراء ، ودخل قطاعهم الملهم هذا بذلك فى ازمة عميقة من عقارات راكدة فى رمال الصحراء .
ذكرنى هذا النموذج الرث فى التنمية المعتمدة على طلب الاقلية من السكان بنموذج النمو البرازيلى فى عهد الحكم العسكى ، والذى كانواقد روجوا له فى الستينيات والسبعينيات باعتباره ” المعجزة البرازيلية ” والذى حللته بالتفصيل فى كتابى ” دراما أمريكا اللاتينية ” ، وهو نموذج إنتهى إلى مأزق تام بعد عدد من السنوات ، و إن كانت للأمانة أطول قليلا من سنواتنا ، و أيضا بانجازات أفضل كثيرا مما يسمى عندنا إنجازات ، لأنه فى النهاية توجه بدرجة أكبر للتصنيع وبدرجة أكبر للتصدير . إلا إنه اشترك مع نموذجنا للنمو فى العشرة فى المائة من السكان الذين وديستهدفهم نتيجة السياسة المشوهة والرثة لتركيز الدخول ، وقد وصل الأمر ببعض المدافعين عن ذلك النمو النمشوه أحادى الجانب فى البرازيل وقتها (باير ) للتنظير له باسم نظرية الهند وبلجيكا للربط بين توزيع الدخل واقتصاديات الحجم الكبير . فحجم البررازيل الكبير فى رأيهم يستطيع تأمين النمو المستقبلى رغم تركيز الدخول ، وحسب تعبيرهم ” فإن البرازيل تعتبر كما لو كانت بلجيكا والهند فى وقت واحد ” ، ويمثل بلجيكا فيها 20 % من السكان الأغنياء الذين وصل عددهم آنذاك إلى 20 مليون شخص بدخل يصل يومها إلى 800 دولار ، أو 5 مليون شخص بدخل يتجاوز 3 آلاف دولار ، بينما يمثل الهند 80 مليون شخص بدخل أقل من 300 دولار . ولكن نظرية الهند – بلجيكا فشلت فى النهاية فى منع مأزق اقتصاد يعتمد فقط على طلب القلة من السكان .
ألا ترون معى أن الفكرة المدهشة المبسطة للإقتصاد المزدوج بين الهند وبلجيكا هى نفسها التى تفسر بشكل أوضح جوهر التبسيط الإقتصادى المخل للأفكار المسيطرة على النخبة المصرية التى تتخذ القرار فى نموذج اقتصادى مشوه ورث للغاية ؟