محمد حليم يكتب: قراءة في فيلم Don’t look up.. عن المباشرة ولماذا اختلفنا حوله.. كيف أضعنا كل ذلك؟
مشهد (داخلي-استوديو برنامج توك شو شهير- نهاراً)
يجلس الدكتور عالم الفلك راندال ميندي (ليوناردو دي كابريو ) مقابل المذيعة الشقراء، ومعهما المذيع المتكلف دائما ، يحاول جاهدا أن يشرح خطر المذنب المتجه صوب الأرض والتهديد الذي يمثله بقرب نهاية البشرية، بينما تضع المذيغة يديها على فخذه محاولة نقل استثارتها الجنسية اليه…
في كتابه رأسمالية الكوارث : كيف تجنى الحكومات والشركات العالمية أرباحًا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية؟ يستهل “أنتوني لوينشتاين” مقدمه فصله الخامس (الولايات المتحدة، أرض الأحرار صارت دولة السجون) بجزء من مقال للاقتصادي الحائز على جائزة نوبل “بول كورجمان” :
“اتبع المال، ولا تعر اهتماما بما تفعله أو لا تفعله الخصخصة بميزانيات الدولة، فكر بدلاً من ذلك فيما تفعله بكل من خزائن رجال الأعمال والسياسيين وأصدقائهم. فكلما زادت خصخصة الوظائف الحكومية، أصبحت الدول جنات شعارها اللعب مقابل الدفع، والتي تصبح فيها مقايضة التبرعات السياسية بعقود الأعمال الحكومية أمراً شائعاً للحاشية والمحاسيب”.
تستطيع عزيزى القاريء أن تتبع التيمة الأساسية للفيلم من خلال الكلمات السابقة، فعظمة فيلمنا “Don’t look up” تكمن في وضوحه ومباشرته –وهو الأمر الذي لم يعجب الكثيرين- في تقديم نقد جذري للنظام العالمي الحالي، في كل جوانبه، في جانبه السياسي بكشفه للعبة الديموقراطية اللليبرالية التي تتحكم بها رؤوس الأموال ويصبح فيها السياسيين مجرد عرائس ماريونت تحركها حملات التبرعات الانتخابية، وفي جانبه الاقتصادي القائم على اللهاث وراء الربح، فالربح والربح فقط هو معيار كل شئ، وأخيراً نقده للمجتمعات الرأسمالية الحديثة الغارقة في اللامبالاة والتفاهة والسطحية.
فرجل الأعمال صاحب شركة الاتصالات الأكبر “الممول الرئيسي لحملة الرئيسة الامريكية ” استطاع أن يوقف البعثة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية المتجه لضرب المذنب وانقاذ البشرية، في مشهد عبثي تماما لعودة الصواريخ ومركبات الفضاء أدراجها بعد اقلاعها بعدة دقائق، سبقه احتفال مهيب شهدته الجموع حول العالم التي تعلقت افئدتها ببعثة انقاذ البشرية المفترضة، كما روجت لها آلة الاعلام الأمريكية، لنكتشف بعد ذلك أن الطمع في استغلال المعادن الكائنة في بطن المذنب، كان السبب في عرقلة ضربه وانقاذ الكوكب، في إسقاط واضح لدور رأس المال وسعيه المدمر للتراكم ولوعلى حساب الملايين من البشر وأرواحهم.
ورأس أكبر منظومة سلاح على مستوى العالم، رئيس أركان الجيش مجرد فتى أبله تتلخص كل مقوماته في كونه ابن لرئيسة الدولة، يستخدم سلطاته بعبثية شديدة ترقى للكوميديا السوداء باعتقاله لعالمة الفلك طالبة الدكتوراة (جينيفر لورنس) مكتشفة المذنب، حين حاولت تنبيه الشعب بالكارثة القادمة، ثم اعتقاله فيما بعد للدكتور “ميندي” حليف الأمس، الذي استفاق من وهم امكانية الاصلاح وانقاذ الكوكب بالسير في ركاب السلطة ورجل الأعمال الجشع الذي اقصى كل صوت علمي معارض لمشروعه الخاص باستغلال معادن المذنب، في اسقاط واضح لقدرة السلطة على اخراس الاصوات المعارضة، بغض النظر عن مدى وجاهة تلك الأصوت ومدى صدقها وحرصها على المصلحة العامة، وكيف أن تهم فضفاضة من قبيل تهديد الأمن القومي، أو اشاعة الذعر بين المواطنين وزعزعة الأستقرار والأمن المجتمعي… ألخ، يمكن أن تشكل قيداً على الحرية في ابداء الرأي والتعبير، الجدير بالذكر هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية بها أكبر نسبة مساجين على مستوى العالم من حجم سكانها، فهناك أكثر من 6 ملايين امريكي يخضعون لنظام “الإشراف الإصلاحي” وهو أكبر –على سبيل المثال- من العدد الذي كان موجوداَ في اقليم أرخبيل الغولاغ تحت حكم ستالين الذي واظبت الدعاية الأمريكية والغربية عموماً على شيطنه فترة حكمه ووصفه بالديكتاتور السفاح!!
وأخيراً يأخذنا الفيلم لمنطقة السينما وما بعد الحداثة، فإذا كان “جون مور” حاول في اطروحته “السينما والحداثة” أن يوضح كيف لعبت السينما دورًا هاماً في إرساء قيم الحداثة، بتأكيدها لسؤالها الجوهري –كما يقول دوير في كتابه ماركس ضد نيتشه – لماذا؟ الذي عكس طبيعة ومهمة الحداثة في الكشف عن الطبيعة ولغز الكون، بل وكشف الإنسان نفسه كماهية، فإن الفيلم الذي بين ايدينا يعكس جوهر فلسلفة ما بعد الحداثة، وسؤالها الجوهري “أين؟”، أين تكمن الحقيقة؟ وأين يوجد الصدق؟ وأين يتجلى الخير؟ والإجابة التي تحملها تلك الفلسلفة بإنه لا توجد حقيقة وليس هناك صدق إلا صدق اللاوعي، بينما يصبح الخير والشر أشياءا نسبية، وهذا ما جسده الفيلم في إنقسام الشعب إلى فريقين، أحدهما يوقن بخطر نهاية العالم والمصير المأساوي الذي ينتظر البشرية، وفريق آخر ينكر الخطر المحدق فوق رأسه، بل ويهتف بملئ الحناجر: Don’t look up، أي لا تنظر إلى السماء ولا تصدق ما تراه عيناك بل وكذبهما، في إشارة بليغة لحالة الضبابية التي تنشرها طوال الوقت آلة الاعلام ومراكز انتاج الفكر الرأسمالية كي تغطي على شمس الحقيقة الساطعة في كبد السماء، الحقيقة التي مفادها أن قلة قليلة من أغنياء الكوكب تتحكم في مصائر ملايين البشر وتستحوذ على ثروات وموارد الكوكب وعلى أتم استعداد للقفز بعيدا من المركب الغارقة اذا تدهورت الأمور فجأة وخرجت عن السيناريو المرسوم مسبقأ لخدمة تلك القلة، وهو ما حملته نهاية الفيلم حين هرب رجل الأعمال بمعية رئيسة الولايات المتحدة الأمريكية وتلك القلة المنتقاه، على سطح مركبة فضائية طافت الكون آلاف السنين بحثأً عن كوكب آخر يصلح للحياة، بعد أن هربوا وتركوا الكوكب والبشرية يواجهوا مصير الفناء بسبب جشعهم واحتكارهم للحياة، ربما كانت تلك هي رسالة المخرج وكاتب الفيلم “آدم مكاي” الأخيرة لجمهوره، أن نستفيق ونعي الحقيقة التي مفادها أنه لا مناص من تجاوز الرأسمالية كنظام إجتماعي وإقتصادي إذا اردنا النجاة والحفاظ على وجودنا وليس فقط تقدمنا البشري، وهو ما لخصه المشهد الأخير –والرائع- بالفيلم مشهد العشاء الأخير لعائلة دكتور ميندي وطالبته “جينيفر لورنس” وحبيبها بالإضافة لصديقهما “روب مورجان”، حين طرح بطل الفيلم دكتور “ميندي” سؤاله الأخير: ” كيف اضعنا كل ذلك؟ فقد كنا نملك كل شئ”..
رابط الحساب على اضاءات :
https://www.ida2at.com/author/mohamed-halim/6m