أحمد سعد يكتب: المبادئ بين الخلق والتفصيل (من المدعوم إلهيًا؟)
هل خلق الله المبادئ والقيم، أم هي منتج بشري؟.. سؤال ربما يثور في الأذهان تكتنفه الكثير من التشوشات، خاصة وأن تلك المبادئ والقيم هي في نظري من صميم الاختبار الإنساني كما أنها في الوقت ذاته صُلب التقدم البشري.
ليس القطع بالجواب سهلا، لكنني أرى، أن القيم والمبادئ خلقها الله وفصّلها الإنسان.. وضع الله الأصل على أن يكون الاستخدام إنساني والتبيان إنساني والتطبيق إنساني.
الأمر أقرب ما يكون -في اعتقادي- إلى علاقة الموارد الطبيعية بحركة التطور، فالموارد الطبيعية سواء متجددة أو غير متجددة من رياح وماء وتربة أو مناجم وآبار لمشتقات البترول وخلافه، هي الأصل الذي لولاه لما قامت حضارات الإنسان.
إن تفاصيل التطور التكنولوجي التي أقام عليها الإنسان حضارته -بعبقرية- هي مستمدة في الأصل من تلك الموارد الطبيعية التي استغلها الجنس البشري في البناء، لو لم تكن هذه الموارد لما كانت حضارة الإنسان ولربما لم يكن الإنسان أصلا.
بدون استخدام الموارد، لظل الإنسان الأول في موقعه داخل الكهف يعيش على الجمع والالتقاط، وستكون أكبر إنجازاته على مر العصور هي اكتشاف النار.. لينتهي به الأمر مُنقرضًا ككثير من الفصائل الحيوانية.
كذلك القيم والمبادئ، هي المنجم الأصيل الذي يستمد منه الإنسان ما يُسيّر أموره الحياتية من أجل التطوير والعمران، وبغيرها ينقرض الإنسان.
لكن الإنسان عليه أن يُطوّع ما يستخرجه من “منجم القيم والمبادئ”، ويفصّله، ويعيد بناءه مرة أخرى.. عليه أن يقوم بعمليات معالجة وصهر ودمج وفقًا للقوانين الطبيعية والمنطق الذي يحكم من أجل تحقيق التقدم المنشود.
وبناء عليه، فإذا أخذنا قيمة “العدل”، على سبيل المثال، فهي -في اعتقادي- بمثابة الأصل الذي خلقه الله وأمر به، لكن على الإنسان أن يحدد ذلك المفهوم وآليات تنفيذه ومنظومة عمله وكيفية تطبيقه.
ولقد أرشدتنا الأديان السماوية، والفلسفات الإنسانية، إلى مناجم القيم والمبادئ، لكي نسير إلى الأمام ونستخرج منها.. ليس الأمر يسيرًا؛ لكنه ليس عسيرًا كذلك، وبقدر ما يحمل من المشقة فإنه يحمل من الأمل.
وإن توقف الإنسان عن استخراج القيّم والعمل بها، لهو نظير الفشل والضياع، ذلك أنه يوقف نفسه بنفسه عن حركة التقدم ليبقى في براثن عصر الظلمات أسيرًا لمنطق الغاب وحُكم القوة.
خلق الله “القيم والمبادئ” من عَدَم، أنشأها من لا وجود.. فالله العدل خلق العدل وأمر بالقسط، والله الحق خلق الحق وأمر بقوله، والله الرحيم خلق الرحمة وأمر بالتراحم.. كل تلك القيم غير الملموسة كانت بحاجة إلى من يُجسدها؛ إلى من “يختارها” ويحارب من أجلها.. فطريق السداد لا يُنتهج إلا بـ”المبادئ” وتلك المبادئ بحاجة إلى “الحرية”.
وكنت قد حاولت سابقًا إيضاح الرابط بين “القيم” من جانب و”الحرية” من جانب آخر، فحسبما أرى فإن “الحرية” هي الدافع الأصيل تجاه القيم والمبادئ، وبغيابها يغيب عن الإنسان “المُحرك” ويصبح سيره بلا قيمة ولا هدف، فالحرية التي عليها خُلق الإنسان “هي المكُون الرئيس للامتحان الإنساني منذ بدء الخليقة، وهي في ذاتها الدافع نحو القيمة والمبدأ، فلا يكون اختيار الخير إلا باختبار الشر، ولا يعلو الحب إلا بوجود الكره، ولا صعود في انعدام الهبوط.. وبضدها تُعرف الأشياء”.
في رأيي فإنه ليس من سبيل إلى “مناجم القيم والمبادئ” سوى “طريق الحرية”، فالأمر لا يكتمل إلا باختيار الإنسان بنفسه ولنفسه.
وبالتالي، فإن كل من يقطع الطريق على الباحثين عن “القيم والمبادئ” لا يُمكن أن يكون على الصواب، وكل من يُهيل العوائق على ذاك الطريق ليس مدعومًا من الله، فالله لا يدعم قطاع الطرق، ذلك أن الله أمر بفتح السبيل على مصرعيه، ولكل منا أن يختار.. كل من يمنع الناس عن الحرية هو يمنعهم عن الإيمان بالمبادئ والقيم ويقودهم إلى ظلمات قوانين الغاب.
إن الحريات (بكل أشكالها وألوانها ودرجاتها)، هي الطريق إلى “المبادئ” التي هي بدورها الطريق إلى الخير الذي هو بدوره محل الاختيار والاختبار الإنساني.