إلهامي الميرغني يكتب: تأملات في موازنة 2021/2022.. (1) الصورة العامة للمشروع
الموازنة العامة للدولة هي البيان السنوي الذي تقدمه الحكومة للشعب ليعرض كل ايراداتها ومصادر دخلها وكل مصروفاتها ومجالات انفاقها وحجم العجز الذي تقابله وكيف ستتم تغطيته. ولذلك نظم الدستور مراحل إعداد الموازنة ومناقشتها وإقرارها حتي صدور قانون ربط الموازنة ثم بدأ التنفيذ. ينظم القانون رقم 53 لسنة 1973 كل ما يتعلق بالموازنة العامة للدولة.
لكن مرت في النهر مياه كثيرة فمنذ عام 1991 وصدور القانون رقم 203 أصبحت كل شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام خارج الموازنة بدعوي تحقيق المرونة، أي أن 146 شركة حكومية حالياً خارج الموازنة، إضافة إلى 51 هيئة عامة اقتصادية رغم أن لكل منهم موازنة عامة تعرض علي مجلس النواب وتصدر بقانون.إضافة إلى الصناديق الخاصة التي اصبحت في كل الجهات الحكومية منذ التسعينات وحتي 2010 والتي حاولت الثورة تصحيح الوضع بإجبارها علي ايداع جزء من مواردها في البنوك الحكومية وهي بوابة كبيرة من بوابات الفساد العظيم.
وشيئاً فشيئاً لم تعد الموازنة تعبر إلا عن ما بين 30% إلى 40% فقط من الموارد والاستخدمات بينما 60% – 70% تتم بشكل مستقل بعيداً عن أي شكل من أشكال الرقابة البرلمانية. ولو نظرنا للموازنة العامة عن العام الحالي أو مشروع الموازنة الجديدة فلن نجد أي ذكر للعاصمة الإدارية الجديدة أو لمدينة العلمين الجديدة أو لقطار المونوريل الكهربائي الذي يتكلف أكثر من 360 مليار جنيه. ولذلك أصبحت مصر تتخبط في سياساتها المالية نتيجة وجود مصادر للدخل ومصادر للانفاق غير معلنة ولا نعرف عنها شيئاً إضافة إلى مشتريات بمليارات الدولارات وعمولات كبري تتم خارج موازنة الدولة.
تتكون الموازنة العامة للدولة من جانب “المصروفات” وجانب “الإيرادات”، كما تنقسم الموازنة إلى جانبين. يطلق على الجانب الأول “الاستخدامات”، والذي يشمل كافة أوجه الصرف التي تقوم بها الدولة خلال العام المالي، سواءً كانت مصروفات جارية ( أي استهلاكية) أو مصروفات رأسمالية أي ( استثمارية) ، بالإضافة إلى ما تصرفه الدولة على حيازة الأصول المالية وما تسدده من أقساط القروض التي سبق وحصلت عليها.
أما الجانب الثاني للموازنة، فيسمى بجانب “الموارد”، والذي يشتمل على كافة المصادر التي تحصل من خلالها الدولة على الأموال اللازمة لتمويل أوجه نشاطها ومصروفاتها المختلفة. ويشتمل هذا الجانب على كافة الضرائب والرسوم والمنح من الجهات المختلفة والإيرادات الأخرى التي تحققها الدولة نتيجة للنشاط الذي تقوم به، بالإضافة إلى المبالغ التي تحصلها من مبيعات الأصول التي تملكها والاقتراض المحلي والخارجي.
وإذا نظرنا إلي مشروع الموازنة العامة للعام المالي 2021/2022 والمعروضة الآن علي مجلس النواب نجد أن قيمة الاستخدامات في مشروع الموازنة 2.4 تريليون جنيه والمصروفات 1.8 تريليون جنيه. أما الموارد فتبلغ 2.4 تريليون حيث يجب ان تتساوي محاسبياً الاستخدمات والموارد بشكل عام. وتضم الموارد مجموعة الايرادات والتي تضم الضرائب والمنح والإيرادات الأخري وتبلغ 1.4 تريليون جنيه والمتحصلات من الإقراض ومبيعات الأصول المالية والتي تبلغ 27.3 مليار جنيه، الاقتراض وإصدار الأوراق المالية من أذون وسندات وغيرها وتبلغ قيمتها في مشروع الموازنة 1.1 تريليون جنيه تضاف لرصيد الديون المتراكم خلال السنوات الماضية .
كل برامج الإصلاح الإقتصادي التي قدمها صندوق النقد الدولي كانت تستهدف تخفيض عجز الموازنة ولكن الأرقام المنشورة في المشروع المقدم من وزارة المالية لمجلس النواب يتضمن عجز نقدي يبلغ 472.5 مليار جنيه بينما كان في العام الماضي 424.4 مليار جنيه بما يوضح أن القيمة النقدية للعجز تزيد ولا تقل رغم كل سياسات تخفيض الدعم ورفع الأسعار وزيادة الضرائب والرسوم علي محدودي الدخل. والعجز النقدي هو الفرق بين المصروفات (الأبواب الستة الأولى في جانب الاستخدامات) والإيرادات ( الأبواب الثلاثة الأولى في جانب الموارد)، وهذا المؤشر يعكس مدى قدرة الإيرادات المتاحة للدولة من ضرائب ومنح وإيرادات أخرى على تغطية أنشطتها المختلفة ومن بينها الإنفاق الاستثماري.
أما العجز الكلي فقد ارتفعت قيمته من 434.9 مليار جنيه في العام الماضي إلى 475.5 مليار جنيه في مشروع الموازنة الجديدة.لقد اهملنا قطاعات الانتاج السلعي في الزراعة والصناعة واعتمدنا علي الخدمات والمزيد من الاستيراد والضرائب غير المباشرة التي تأخذ من الفقراء مع المزيد من الاعفاءات للاغنياء والمستثمرين.
لماذا نهتم بمشروع الموازنة قبل إقراره؟!
إنها ليست مجرد موازنة بين إيرادات ومصروفات عامة للحكومة، بل موازنة بين خيارات سياسية واجتماعية تعكس انتماءات الحكومة الآنية والمستقبلية وانحيازها الاجتماعي. و تعكس الموازنة انحيازات السلطة الحاكمة وتوضح ممَن تُجبى الإيرادات وعلى مَن تُنفق المصروفات. لو كانت النسبة الأكبر من الإيرادات تُجبى من الفقراء والنسبة الأكبر من المصروفات تخصص للطبقات الأكثر غنى، فهذا مؤشر علي إنحياز الحكومة للطبقات الغنية. والعكس صحيح إذا كانت تحصل الضرائب من الأغنياء وتخصص النسبة الأكبر للإنفاق عل الخدمات العامة للفقراء ، فهذا مؤشر علي إنحياز الحكومة للطبقات الفقيرة.
المفترض انه في الأوضاع الطبيعية تناقش المجالس الشعبية المحلية علي مستوي الوحدات المحلية للقري والمراكز والمدن والاحياء وعلي مستوي المحافظات مشروع الموازنة ولكننا منذ عام 2010 لا يوجد لدينا مجالس محلية منتخبة وتضع السلطة التنفيذية الموازنة وترفعها لوزارة المالية دون اي رقابة مجتمعية. أما علي المستوي المركزي ورغم الحديث عن المشاركة المجتمعية في إعداد الموازنة إلا أن الانحياز واضح حيث أن المشاركة التي تحدث للغرف التجارية واتحاد الصناعات وجمعيات رجال الأعمال والمجالس السلعية واتحادات المصدرين والمستوردين. أما الغالبية الشعبية من العمال والفلاحين وصغار الحرفيين والتجار والموظفين فلا تتم مشاركتهم ولا تدعي منظماتهم للمشاركة في مناقشة مشروع الموازنة بما يوضح الانحياز الواضح للأقلية من رجال الأعمال علي حساب الأغلبية الساحقة من المنتجين. ولذلك تخرج الموازنة منحازة لمن سمعت أصواتهم ولمن تخشي الحكومة من ضغوطهم وتنظيماتهم من رجال الأعمال والمستثمرين.
تعكس الموازنة انحياز الحكومة وسياستها المالية والضريبية للمستثمر الوطني أم للمستثمر الأجنبي وهل يتمتع المنتج الوطني باعفاءات وفرص مساوية للمستثمر الأجنبي أم لا؟! فرق شاسع بين حشد موارد الحكومة لتمويل مشروع تنموي مثل السد العالي وتمويل مشروع غير ضروري مثل العاصمة الإدارية أو القطار الكهربائي السريع. وبين إصلاح السكك الحديدية الحالية أم عمل قطار سريع وسكك حديدية جديدة واستمرار تدهور المرفق الحالي .
مصر مواردها محدودة لذلك فتوزيع هذه الموارد وتوجيه استثمارات الدولة ورعايتها هو شكل من أشكال الانحياز الطبقي التي نتعرف عليها من أرقام الموازنة العامة للدولة. واذا كانت الحكومة اكتفت بمشاركة ممثلي المستثمرين ورجال الأعمال في الموازنة قبل إرسالها لمجلس النواب فمن حق نقابات العمال والنقابات المهنية وتعاونيات الفلاحين والحرفيين وصغار التجار أيضا المشاركة في مناقشة مشروع الموازنة والحكومة ملزمة بعرض الموازنة بطريقة مبسطة وميسرة (موازنة المواطن) لكي يستطيع المواطن العادي معرفة أهم بنود الموازنة وتوجهاتها وانحيازاتها. وأن تتاح له آليات للحوار وسماع رأيه والالتزام بالتصحيح وتحقيق توزانات اجتماعية بدلاً من تحميل الكادحين وحدهم كل أعباء الموازنة .
لقد قدمت الحكومة مشروع الموازنة ومشروع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلي مجلس النواب لمناقشتها والحوار مع وزارة المالية والوصول إلى صيغة نهائية للموازنة ترفع لرئيس الجمهورية ليصدر قانون ربط الموازنة العامة للدولة للعام الجديد قبل 30 يونية. لكي يبدأ تنفيذ الموازنة الجديدة في 1 يوليو وليتم ربط الاعتمادات والصرف من بنود الموازنة الجديدة التي تقسم ما بين الجهاز الإداري للدولة والمحليات والهيئات العامة الخدمية.
إلهامي الميرغني