مدحت الزاهد يكتب: فواصل إعلانية.. خواطر عن تسليع الظواهر الاجتماعية والثقافية وتقسيم المجتمع
كعادة المصريين فى تحويل المناسبات الدينيية إلى مناسبات اجتماعية ترفيهية تحول شهر رمضان من 30 يوما صيام إلى 30 مسلسل و30 فزورة و300 حلقة و3000 اعلان .
وهذا الرمضان بالذات لم يهدأ الجدل حول الإعلانات التى اعتبرها تيار واسع فى مواقع التواصل الاجتماعى استفزازا للمجتمع بعالم من السحر والرفاهية لا يقوى عليه غير أغنى الأغنياء، بينما تساوي اعلانات أخرى بين البشر عندما يتعلق الأمر بطلب التبرعات وأكفل يتيما وخفف آلام طفل وتبرع لبنك الطعام، ومعونة الصيف والشتاء وما بينهما من فصول.
وعبر بوست متداول شهير عن هذا الواقع بكلمات مريرة :
مطلوب منى أتبرع بفلوس أولادي لمستشفى السرطان القديمة، والجديدة ومستشفي ٥٠٠٥٠٠، ومجدى يعقوب، والحروق
واتبرع بهدومى لبتوع رسالة، واتبرع بأكلى لبنك الطعام وأطلع شنط رمضان، وأطلع ذكاة الفطر وأدفع ضرايب، ودمغة، وكارتات، ورشاوى، وأكرمش عشرينات، وكمان أوصل مواسير مية عشان الست الغلبانة متشربش مية بطحالب.
واستحمل برضه غلاء الأسعار، والبنزين، والزيت، والسكر، والرز؛ والبامبرز
وفى نفس ذات الوقت اشترى ڤيلا فى القطامية، واحجز فى ماونتن ڤيو قبل العرض أبو 3 مليون ما يخلص.
تحولات اجتماعية:
وتركز بعض التعليقات على إلقاء المسؤلية عن الإعلان والمعلن. والحقيقة أن توجهات الإعلانات كاشفة لتحولات المجتمع ونظام قيمه، وهى لا تنتجها ولكنها تحفزها وتكرسها وتحولها إلى منظومة متكاملة.
وما حدث من تغير فى مجال الإعلان ارتبط بتخلى الدولة عن وظيفتها الاجتماعية فى دعم الخدمات وتحقيق مبدأ الإتاحة، بلا تمييز بين المواطنين، فى الصحة والتعليم والاسكان وغيرها من المجالات وتسليمها للمستثمرين ورجال الأعمال، وكلما تغولت فى هذا الاتجاه، كلما انعكست هذه التوجهات على شكل ومضمون الإعلانات، لترى اعلانات مدارس تنظم رحلات للعواصم الاوربية وتوفر هوايات ركوب الخيل، وتوفر منح للمتفوقين فى أرقى الجامعات، وبالنسبة لأغلبية المشاهدين تطرأ على ذاكرتهم أن معظم مدارس مصر مكتظة بالطلاب، بلا تعليم، وببعضها مايسمى بالفصل الطائر، وهو فصل متنقل متغير، يرتاده الطلاب الذين ليس لهم أماكن ولا مقاعد عندما يذهب طلابه إلى حصص الهوايات وايضا ستبهرك الإعلانات بالمستشفيات الفندقية بينما تذهب مخيلة المشاهد لصراع المرضى الغلابة على سرير فى المستشفيات العامة، والحقيقة أن الاعلان لم ينتج هذه الظواهر، ولكنه يروج سلعته للزبون فى مجتمع يزداد انقساما، بينما أفراده جميعا يجلسون أمام شاشات التلفزيون، فيروعهم ما أل اليه حالهم.
ومن الطبيعى اذن أن يعمق الاعلان الشعور بالانقسام والهوة بين الطبقات، لأن وظيفته الترويج للسلع، وبطبيعه فهو يخاطب الأثرياء، والزبون المحتمل لهذه السلعة، ولا يعبا ولايهتم بمشاعر الفقراء، فالوسيلة الأهم للترويج تتحقق بطريقة (انسف حمامك القديم) اذا كان المطلوب اصناف جديدة من البانيوهات والسيراميك مرتبطة بصور الرفاهية حتى فى دورات المياه أو يبشرك بجنة المونت فيو وشاليهات النعيم على البحر أو البر أو فى ناطحات السحاب وليس من شأن المعلن أن يرفض الاعلان تعاطفا مع سكان العشش، وأطفال الشوارع وسكان بلا مأوى. فالاعلان بطبيعته طبقى وتمييزى، والجميلات دوما افضل وسيلة لترويج السلع، وهو من هذه الزاوية انثوى منحاز للحسناوات والنجوم وطبيعى أن يربط السعادة والمتعة بالرفاهية والثراء والمساكن والأثاث الفاخر، وهو يكرس هذا المفهوم للسعادة، كمنتح للثقافة الرأسمالية المعولمة فى أحط مراحل تدهور الرأسمالية المرتبطة بشعار الأرباح قبل الأرواح والتوجه نحو تسليع كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والفكرية، أي تحويلها إلى سلع يقاس نفعها بما تحققه من أرباح.
وهذه الفلسفة نفسها هى التى حولت المسرح الى كباريه وأفيشات الأفلام إلى الغراميات الساخنة او مشاهد العنف وما نشتيات الصحف إلى عناوين مثيرة قد لا يجمعها صلة بالمتن، وكل غرضها إغواء متصفح عناوين الصحف للشراء. وما يحدث فى مصر فى مجال الإعلان يحدث فى كل دول العالم والأنظمة الرأسمالية المشابهة.
عوالم المستهلكين
ويحدد بنجامين باربر، هدف العولمة الرأسمالية فى إعادة إنتاج قبيلة كوكبية من المستهلكين، وقد أصبحت صناعة الثقافة مشروعاً تجارياً شديد الضخامة، حول الثقافة إلى سلعة استهلاكية رائجة للترويج والإثارة والتسلية منها صناعة أفلام السينما والتليفزيون والأشرطة والمجلات والكتب.
وتسيطر على هذه الصناعة شركات عابرة القوميات تتحكم في أجهزة الاتصالات والبث والإنتاج والتوزيع، وكثيراً ما نسمع عن علاقات واندماجات بين هذه الشركات لكي تشكل قوة إعلامية موحدة عالية التقنية.
ويلاحظ الكاتب والأديب إبراهيم فتحي إن صناعة الثقافة تنتج صوراً ممتعة متخيلة لطريقة حياة مرفهة تتألف من موديلات سيارات ومساكن وأثاث وأزياء وسلع استهلاك و مقاييس لجمال المرأة المشتهاة ورجولة الذكر الناجح، فهذه الثقافة تهدف إلى خلق ذوق عالمي موحد هو بمثابة الشرط الضروري للتسويق على نطاق واسع… لذلك تتسم هذه الثقافة بالتسليع والتنميط والسطحية.
ويحلل الكاتب المفكر د. محمود أمين العالم تناقضات ثقافة العولمة وأيديولوجيتها التي يطلق عليها البعض اسم الفيديولوجيا القائمة على مذهب السوق (الماركتيزم) فليس من المحتم أن تنجح في تحويل الجمهور إلى ذرات منفصلة متناثرة فريسة للتلاعب الموجه إلى وعيها وسلوكها.
فعملية إنتاج المعاني في المجتمع الرأسمالي عملية دينامية متشعبة حافلة بالنافضات. ومهما تكن سطوة وسائل الإعلام فهناك مواجهات حقيقية بين القوى الاجتماعية المتناحرة تأخذ أشكالاً تمتد من المساومة الجماعية حتى الصدام في إضرابات تخرج إلى الشوارع.
دور المجتمع والدولة
ولطغيان الاعلان فى ارتباطه بتوجهات التسليع وأولوية الأرباح وجوها أخرى فالاعمال الدرامية تتحول الى اشلاء مبعثرة من كثرة القطع وطول مدته، حتى ابتلعت فترات القطع والفقرات الاعلانية الوقت الخصص وأصبح المشاهد من الناحية الفعلية يتابع إعلانات يتخللها مسلسلات ، ولان المسلسلات نفسها أصبحت تنتج خدمة للاعلان، بات من الضرورى البحث عن نجوم السوق، أو نجوم الاعلانات مهما تكن قيمتهم الفنية والاخلاقية، وأصبحت النميمة والفضائح شرطا لترويج بعض البرامج، كشرط لجلب الاعلانات وهى كلها ظواهر تؤدى الى تسطيح وتزييف وقع المتلقى وقد ساعد على تكريس هذه الظواهر حملة مؤسسات واجهزة حكومية على ثورة يناير وشعاراتها للحرية والعدالة الاجتماعية واعتبارها كارثة وتغييب قيم الرقابة الشعبية وحرية النقد فى ارتباطه بسيطرة المؤسسات الامنية على المنابر الاعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية.
والحل الأعمق لعلاج الجوانب السلبية لهذه الظواهر يرتبط بإصلاح سياسى واقتصادى واجتماعى شامل يعيد الاعتبار لمبدأ دعم الدولة ومؤسساتها للخدمات وللثقافة والفكر والفنون وتأكيد مبدأ الاتاحة والانتصار لقيم الحرية وديمقراطية المشاركة وتفعيل دور الهيئات المختصة بالاعلام بوضع ميثاق او لائحة اداب تقيد مرات وفترات الاعلان والاعلانات الاكثر استفزازا.
طبعا لن يختفى مع أى تغيير، بالمعنى الواسع للكلمة، سوق الاعلانات ولا مضمونه وشكله ووقعه على المتلقى يمكن أن يطرأ عليه تطورات ايجابية أصبحت ملحة لسلامة المجتمع.