عشر سنوات على ثورة يناير.. كارم يحيى يكتب: جمعة الغضب.. “فلان الفلاني” فتح أمامي وشقيقي الطريق إلى التحرير (ذكريات يناير)

نص مهدى إلى

” فلان الفلاني”

..وأيضا للصديقين الراحلين

عبادة كحيلة وعبد العال الباقوري

  استيقظت صباح “جمعة الغضب” 28 يناير 2011 عازما على دخول ميدان التحرير من جديد، ومن أجل استكمال الاحتجاج الكبير “غير النخبوي” يوم 25 يناير، لم يكن عندي  حينها صفحة بالفيس بوك، مع إنني أبحرت في شبكة الإنترنت منذ نهاية التسعينيات، وشاركت في الوقفات الاحتجاجية المحاصرة والمسيرات النادرة بوسط القاهرة كافة تقريبا وكنت شاهدا عليها، من التضامن مع الفلسطينين واللبنانيين ضد العدوان الإسرائيلي عند الجامع “الأزهر” صيف 1982، مرورا بالانتفاضة الفلسطينية والحرب على العراق ثم غزة وصولا إلى “كفاية” وأخواتها وحركة “صحفيون من أجل  التغيير” التي دعوت إلى تأسيسها وكنت منسقا عاما لها، وكذا التحرك الجماهيري الأوسع تضامنا مع حركة استقلال القضاة والقضاء (**) .

  على مدى يومين علمت باندلاع احتجاجات في الشوارع على حكم مبارك خارج القاهرة، وتصدي قوات شرطة القمع لها بقسوة بدت أشد وأعنف مما جرى في ميدان التحرير ووسط القاهرة يوم 25 يناير، وهذا أساسا بفضل أطباق التقاط  بث القنوات الفضائية خارج مصر.

فعلى مدى الأيام الفاصلة بين فض اعتصام  التحرير بعد الثانية عشر من ليل الثلاثاء 25  يناير و صباح يوم 28 تناهت الدعوات المتعددة لانطلاق المظاهرات لإسقاط  مبارك ونظامه من المساجد بعد صلاة الجمعة ممزوجة بأنباء سقوط الشهداء الأوائل، وبخاصة في مدينة “السويس”. وكأن هذا اليوم 28 يناير قد حجز لنفسه في التاريخ تسمية ” جمعة الغضب”، ومبكرا قبل أن يأتي ويحدث.

 ولقد بدت لي الدعوات لجمعة الغضب على كثافتها وتعددها وشيوعها بدون إدعاء أي تنظيم او كيان احتكاره لها أو مبادرته بها وكأنها ” دعوة من الشعب إلى الشعب”، وبدون زعامات أو قيادات. تماما كما لاحظت المشهد المهول الجامع للناس في يوم 25 يناير. وبالأصل كانت “كفاية” أكثر الحركات الاحتجاجية محاولة للنزول إلى الشارع التي انخرطت فيها قد انتهت إلى أن تآكلت أو أكلت نفسها وفقدت زخمها، وحتى بريقها الإعلامي.

وقبلها بأيام، صدمني عندما فتحت موقعها الإلكتروني على شبكة الإنترنت الصور الشخصية الكبيرة والمكررة بشكل مقزز منفر لمنسقها العام  الجديد “عبد الحليم قنديل” ولوجه شاب مبتسم بدا تياها بالنفس. وعرفت لاحقا أن أسمه ” محمد عبد العزيز”(***) وأنه أصبح مسئولا عن الموقع.

  قبل أن اغادر المنزل في حي المعادي جنوبي القاهرة إلى وسط المدينة، حرصت على مشاهدة فضائية قناة “الجزيرة” التي شكلت على مدى سنوات مساحة تنفس مقدرة لمعرفة المعلومات والآراء خارج قبضة النظام الرسمي العربي بمجمله، مخترقة ولو نسبيا الصمت والتواطؤ واللامهنية لحساب ملوكه وأمرائه ورؤسائه وأجهزة قمعه. كما أثبتت خلال أيام الثورة التونسية، ووصولا إلى الأيام الفاصلة بين 25 و صباح 28 يناير المصري، أنها المصدر الإخباري الأهم باللغة العربية، وحتى بين كل الفضائيات القادمة من خارج المنطقة، مستعينة بصحافة المواطن. وقد ترجمت” الجزيرة” حضور وقوة هذه الصحافة الجديدة الخارجة والعصية على القيود وتفوقها على الإعلام التقليدي بكل ألوانه وأنواع ملكيته عبر بث المشاهد والفيديوهات المصورة من الميدان، وأحيانا في اللحظة مباشرة.

  ظهر على شاشة “الجزيرة” صباح “جمعة الغضب” بفضل صحافة المواطن هذه مقطع مصور لمواطن مصري أعزل  في “العريش” بشمال سيناء وكأنه يتظاهر محتجا وحيدا بمفرده في طريق خال، قبل أن يسقط أرضا مضرجا في دمائه، وبعد أن سمعنا من المقطع صوت إطلاق رصاص. كما علمت بشن حملة اعتقالات من المنازل عند فجر اليوم شملت رموزا سياسية من تيارات عدة، ومن بينها قيادات لجماعة ” الإخوان” ( وقد اتضح لاحقا أن من بينهم الدكتور محمد مرسي من سيصبح الرئيس المدني الوحيد والمنتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر وإلى اليوم ). وعندما أغلقت التلفزيون دون أن أفكر في مطالعة القنوات المصرية، أدركت أن هاتفي المحمول تحول إلى جثة خرساء، كما كانت خدمة ” الإنترنت” قد جرى تعطيلها. 

وعندما أجريت عبر الهاتف الأرضي مكالمات مع أصدقاء وشقيقي الوحيد الدكتور “إيمان يحيى” تيقنت من إيقاف خدمات شبكات المحمول، واتفقت مع شقيقي وأصدقاء ـ أذكر منهم الراحلين العزيزين الصديقين الكاتب الصحفي الأستاذ “عبد العال الباقوري” والمؤرخ الأكاديمي الدكتور “عبادة كحيلة” ـ على الالتقاء بالقرب من نقابة الصحفيين .

*

 في الظهيرة وبعد انتهاء صلاة الجمعة، شاهدت مصريين  ـ لا يعرفون في الأغلب بعضهم البعض ومعظمهم من غير الوجوه المألوفة في مشاهد الاحتجاج السابقة قبل 25 يناير ـ يتوافدون فرادى ومجموعات إلى شارعي “معروف” و”طلعت حرب”، وقد بدأت تتشكل مظاهرات تردد هتافات 25 يناير كـ :” ” عيش .. حرية .. كرامة وطنية” و”الشعب يريد اسقاط النظام” و”يسقط حسني مبارك.. يسقط حكم العسكر” و…  وغيرها. وسرعان ما بدأت هذه المظاهرات تتجمع صوب ميدان طلعت حرب في طريقها إلى ميدان التحرير الذي بدا من بعيد ثكنة عسكرية، ومع تجنب شارع رمسيس الوسيع حيث تركزت جحافل أخرى من قوات الأمن تسد الطريق،  بدا الزمن وقد توقف خلال دقائق حول تمثال “طلعت حرب”. جبهة من المتظاهرين السلميين أمام جبهة من قوات الأمن يتقدمها رتب عليا. ولمحت الصديق الأستاذ “جورج اسحق” المنسق الأول لحركة “كفاية” يتقدم متفاوضا مع قيادات الأمن محاولا اقناعهم بفتح الطريق أمامنا إلى “التحرير”. وبعد أن نيأس من فشل التفاوض، اندفعت قوات الأمن لتفريق المتظاهرين المحتجين بالقوة. وبدأ ضرب قنابل الغاز المسيل للدموع. و بدورهم تراجع المحتجون بعيدا عن ميدان طلعت حرب وفي شارعه في إتجاه معاكس للتحرير. وانطلقت عربات قوات الأمن زيتية اللون قاتمة الخضرة في ملاحقتنا مع إطلاق متكرر متسارع لقنابل الغاز من فوق أبراجها.

 تفرق المحتجون في الشوارع الجانبية وبخاصة تجاه شارع “معروف” الموازي لشارع “رمسيس”. لكن مع عزم وتصميم على العودة مرة تلو أخرى. كر وفر بلاكلل ، مع ظهور زجاجات “الكولا” الغازية و”الخل” للتغلب على الغاز بالاستفادة من خبرة أشقائنا التونسيين المتدوالة سابقا عبر شبكة  “الإنترنت”. تفحصت كغيري مقذوفات معدنية فارغة لقنابل الغاز، وقرأت عبارة “صنع في الولايات المتحدة الأمريكية” بالإنجليزية. لذا خرج الهتاف ” يامبارك ياجبان ياعميل ( وأحيانا يا خدام ) الأمريكان” من أعماق الصدور.  

وغير مرة تمكن محتجون من العودة للتجمع في شارع طلعت حرب، بينما اخذت السيدات العجائز المطلات من شرفات ونوافذ العمارات الأثرية ذات الطراز الإيطالي في تحدي رائحة الغاز وكثافته وتأثيراته بالظهور وإلقاء زجاجات المياه إلى المحتجين العائدين، ومعظمهم من الشباب. وقد اختلط  بينهم خريجو وطلبة الجامعات والمدارس الثاوية  من أبناء الطبقة الوسطى مع ” أولاد البلد” من صنايعية جاءوا من ورش “معروف” و “عابدين” والفقراء المعدمين والذين أجبروا على التسرب من التعليم. وهكذا أتذكر مشهد السبيكة الجماهيرية ليوم  “جمعة الغضب”، وعلى نحو يختلف نسبيا عن معتصمي ميدان التحرير ثلاثاء 25 يناير.

 اضطر الأستاذ ” عبد العال” إلى مغادرة ساحة الكر والفر إلى مقهى منزو في منطقة “معروف”، عندما ظهرت تداعيات خطيرة عليه جراء الغاز، ونظرا لأنه بالأصل مصاب “بحساسية مزمنة في الصدر”. وبقي الدكتور “عبادة” في صحبتي وشقيقي  نكر ونفر معا بين شارع طلعت حرب قرب العنق المفضى إلى الميدان باتجاه التحرير و بين الشوارع الجانبية. وقد دخل بدوره في أزمات تنفس وحرقان عيون وفقدان نظر أخطر مما أصابتني وشقيقي نظرا لتقدمه عنا في العمر، لكنه بقي كطفل عنيد يرفض المغادرة.

وهكذا ظل هذا الأكاديمي والمثقف العلامة ومن أبرز المتخصصين في تاريخ الأندلس والمغرب الكبير يكافح قسوة قوات الأمن ومطارداتها والغاز المسيل للدموع لما يقرب من الساعتين، وقد ناهز حينها السبعين سنة، و بدا لي متشبثا إلى حافة الاختناق والموت باللحظة، ومعها أمل التغيير الذي حلم به وسعي إليه. وأيضا عبر مشاركته في فعاليات “كفاية” وحركة “9 مارس لاستقلال الجامعات”. وفي ذاكرتي لحظة مهاجمة بلطجية “الحزب الوطني الحاكم ” للوقفة الاحتجاجية فوق سلم نقابة الصحفيين ضد تعديل مبارك للدستور عصر يوم 25 مايو 2005 وفي حراسة قوات الأمن وبتحريضهم. وكيف أن باب النقابة انغلق دون أن يتمكن من الدخول، لولا أنني قمت بفتحه لإدخاله، لكنه وقد رأى الخطر على هذا النحو ها هو يعود ويصمم على المجازفة.

هل نفذت ذخيرة الغاز والمياة المندفعة بقوة من عربات الأمن؟ أم أن أنباء مهاجمة المواطنين لأقسام الشرطة في مختلف أنحاء القاهرة قد وصلت لـ”باشوات” و”بهوات” الداخلية؟..أم…؟ لا أدرى. أو ربما لم يكن هناك وقت للتوقف والتأمل والتفكير والتفسير بعلم اليقين. وما أذكر جيدا أننا عدنا إلى ميدان طلعت حرب عبر شارعه لأشهد فلول جيش قوات القمع العرمرم وقد أصبحوا بقايا عساكر أمن مركزي بلا ضباط.  تقريبا كانوا تائهين .. لايعرفون إلى أين يذهبون ؟. وبعضهم سقط مغشيا عليه بفعل الغاز المسيل للدموع الذي عبأ المنطقة، وربما بفعل سوء التغذية وهبوط المعنويات.

وأتذكر أنني قابلت حينها الصديق الباحث والمترجم الأستاذ “مصطفي الجمال “، وأننا صعدنا مع شقيقي وآخرين لمقر حزب “التجمع ” في صحبة إثنين من هؤلاء العساكر المصابين، وبعدما علمنا بأن الحزب ـ الذي أصدرت قيادته بيانات وتصريحات ضد الاحتجاجات ومنذ عشية 25 يناير ـ  فتح أبواب مقره المركزي على مقربة جدا من ميدان طلعت حرب لتقديم خدمات الاسعاف، والتي لم تستثن عساكر الأمن المركزي. وأتذكر أيضا أنني سمعت صوتا ساخرا مستفهما يسأل عن هل يعلم الدكتور رفعت السعيد رئيس الحزب؟، دون أن تصدر إجابة عن موظف بالمقر، وما يظل محفوار في الذاكرة حفرا عميقا ما أسر به جندي مصاب. قال هامسا :” سامحوني .. أنا عبد مأمور للباشا”.

 ومع هذا، فإن الطريق إلى ميدان التحرير لم يكن مفتوحا بعد، وحتى عصر هذا اليوم. فالمزيد من حشود قوات الأمن مرابطة عند مداخل  الميدان بعرباتها ومدرعاتها تسد كافة الطرق. واتجهت وشقيقي والدكتور “عبادة” والأستاذ “مصطفي الجمال” إلى المقهى المنزوي معروف التي سبقنا إليها الأستاذ  “عبد العال. وفي المقهى المسمى بـ “الخن” ( بضم  حرف خاء)، والتي تقع  بمدخل جراج سيارات على نحو يصعب للمارة غير العارفين بها تبينه، شاهدت على شاشة قناة ” الجزيرة” أنباء وفيديوهات وثقها وبثها مواطنون مصريون لإنهيار شرطة النظام والرئيس وأسرته على أيدي مصريين بسطاء هاجموا وأحرقوا العديد من أقسامها ومراكزها، فيما بدا يوم الانتقام والثأر مما عانوه من تعذيب وإهانة وإذلال لعشرات السنين.

وبدا الأمر تلقائيا عفويا وبمبادرات شعبية عبقرية من أسفل على مستوى كل حي ومدينة، وظهرت على شاشة “الجزيرة” مقاطع فيديو في التو وعصر هذا اليوم توثق  لآثار ماوصف لاحقا بـ “العنف الثوري” في العاصمة ومختلف أنحاء البلاد، وبخاصة بمحافظتي السويس والإسكندرية.

 وقد شهدت المحافظة الأولى على مدي اليومين الماضيين قمعا وحشيا للمظاهرات. و تردد بحلول عصر يوم 28 يناير أن السويس قد تحررت من الشرطة تماما. كما شاهدت عبر شاشة تلفزيون مقهى “الخن” ضباطا قرب عدد من أقسام الشرطة بالقاهرة، وبينهم رتب عليا، وهم يخلعون ستراتهم الرسمية ويتخلصون منها، كي يتمكنوا من الهرب والاختباء توقيا للغضبة العظمى للشعب المصري.

كما ظهرت مقاطع أخرى توثق لهذه السترات وفوق أكتافها النجوم والنسور، ومعها غطاءات الرؤوس الرسمية لضباط الشرطة ( الكاب) وهي في أيدي مواطنين بسطاء سعداء باللحظة، وبعضهم أخذ في الرقص والمباهاة بانتزاعها وسط مجموعات فرحة.

*

عندما غادرت وشقيقي المقهى قبل حلول المغرب لم يكن ممكنا بعد الوصول إلى ميدان التحرير، لكننا ظللنا مشدودين للبقاء بالقرب منه. فتوجهنا إلى الصديق الأستاذ “يحيى قلاش” في مكتبه بجريدة “الخليج” بممر “الجريون”. وكان حينها عضوا بمجلس النقابة، وقد جمد نشاطه بالمجلس احتجاجا على النزعة الاستبدادية في إدارة النقابة من جانب النقيب الأستاذ “مكرم محمد أحمد” أحد كتاب خطابات الطاغية “مبارك” وعضو حزبه المنحل بحكم قضائي لاحقا لإفساده الحياة السياسية، وبالطبع وجدناه بالمكتب، فاليوم عمل بالنسبة لمكاتب ومراسلي الصحافة التي تصدر خارج مصر ، ويوم عمل استثنائي. 

وعلمت بقرار مبارك في نحو الخامسة مساء و بصفته الحاكم العسكري للبلاد وبمقتضى قانون الطوارئ فرض حظر التجول وتكليفه الجيش بتنفيذ الحظر بالتعاون مع الشرطة، لكن الارتباك والغموض أحاط بنطاق القرار حينها.  قال التلفزيون الحكومي بأنه في المحافظات الثلاث: القاهرة والإسكندرية والسويس، فيما بثت قبله بدقائق وكالة أنباء الشرق الأوسط  الرسمية أنه يشمل محافظات الجمهورية كافة.

وسرعان ما ظهر “مبارك” في كلمة مسجلة متلفزة استغرقت نحو 11 دقيقة حملت عنوان ” بيان إلى الأمة”. خلفه علم مصر و شعار رئاسة الجمهورية. وفوق ملامح وجهه الذي جاهد كي يبدو غير مكترث، شعره الأسود المصبوغ بعناية لاتترك فرصة لشعره بيضاء واحده مع أنه جاوز الثلاثة والثمانين عاما، منها نحو الثلاثين حاكما للبلاد، ومنعت نفسي من الضحك بصوت مرتفع عندما قال :” إن الشرطة حمت الشباب المتظاهر احتراما لحقه في التظاهر السلمي”. ومرة أخرى عندما زعم أنه “منح مساحات عريضة لحرية الرأي والتعبير والصحافة”. وغير مرة تالية وهو يفاخر بـ ” انحيازه لفقراء الشعب”.

أعلن أنه طلب اليوم من الحكومة التقدم باستقالتها، وأنه سوف يحمل الحكومة الجديدة “بتكليفات واضحة محددة للتعامل الحاسم مع أولويات المرحلة المقبلة”. وأغدق الوعود “بخطوات جديدة للإصلاح نحو المزيد من الديمقراطية والحريات للمواطنين ومحاصرة البطالة، ورفع مستوى المعيشة وتطوير الخدمات والوقوف إلى جانب الفقراء ومحدودي الدخل”، لكنه لم يذكر أبدا كلمة واحدة عن قراره فرض حظر التجول وانتشار قوات الجيش في الشوارع، ولا عن الشهداء برصاص قوات أمنه الذين تواترت أنباء سقوطهم بالرصاص الحي والخرطوش على مدى اليوم ..وكذا اليومين السابقين.

*

 دخلنا الميدان أخيرا بعدما حرره شباب لا نعرفهم.. حرره من ستطلق عليهم الأغنية لاحقا “فلان الفلاني”. وعندما تحركت وشقيقي بعد المغرب من مكتب “يحيى قلاش” بإتجاه ميدان التحرير،  الذي وردت أنباء تمكن المتظاهرين القادمين من جهة الجيزة عبر كوبري قصر النيل من اقتحامه بعد ملحمة مواجهات مع قوات الأمن سقط فيها بينهم شهداء ومصابين، لاحظت أن أيا من متاجر وسط البلد أو السيارات التي مررنا بها لم يلحق به ضرر أو سوء. كانت رائحة الغاز المسيل للدموع النفاذة مازالت في الجو مع انتهاء المواجهات تملأ الرئتين، ولكن الطرق مفتوحة إلى الميدان. وعندما بلغناه ودخلنا إليه بدت آثار معارك عند مداخله، وبخاصة من ناحية كوبري قصر النيل والطريق الواصل بينه وبين ميدان ” عبد المنعم رياض” .

شاهدت هناك سيارة لقوات الحرس الجمهوري مقلوبة معطوبة، فضلا عن سيارات أخرى لقوات الأمن انتهت الى المصير نفسه، ومجموعات من المواطنين تحيط بكل منها تتفحصها وتخط عليها شعارات الحرية وبسقوط مبارك.  وكانت هناك مدرعة للشرطة اشتعلت النيران في جانب منها وإلى جوراها مواطنون يحاولون فتحها، وهم يتجادلون حول صحة سماع أصوات بشرية تأتى من داخلها.

 تناثرت دبابات للجيش في الميدان الوسيع يلفها الغموض. وشاهدت شبابا ينامون أمام جنازيرها أو فوق الجنازير. لم أسمع خلال جولتي وشقيقي بأرجاء ميدان التحرير دعوات من أي قوات أو جهة ما لالتزام حظر التجول، مع أنه دخل بالفعل حيز  التنفيذ من الساعة السادسة مساء. وهذا على خلاف بيانات صدرت من قيادة الجيش في الأيام التالية، وإن ظل المصريون يتحدون الحظر. وما حصل أن حظر التجول لم يطبق أبدا على مدى الثمانية عشر يوما التي انتهت بإعلان تنحي مبارك مساء 11 فبراير 2011. كما استمعت مع دخول الليل من الناس في أطراف ميدان التحرير إلى روايات عن قيام قوات من الجيش فور انتشارها بامداد الشرطة بالذخيرة في محاولة أخيرة فشلت لقمع المحتجين ومنعهم من احتلال الميدان. وأيضا عن تعمد سيارة تابعة للجيش دهس متظاهرين. وهذا فضلا عن روايات عن استخدام أمن مبارك لسيارات الإسعاف لاعتقال الجرحى.

بدا الميدان رغم ظلام الليل يحمل بصمات وعلامات واضحة كالشمس لمعركة كبرى اجتاحت ارجاءه منذ قليل. وشاهدت الدخان والنيران تتصاعد  قرب الميدان من المبنى الرئيسي للحزب الوطني الحاكم ( الإتحاد الاشتراكي سابقا ) لتضئ جانبا من سماء هذه الليلة.  ولكن عندما كنت احث السير إلى جوار سور المتحف المصري الواقع في إتجاه مبنى الحزب انطلاقا من ميدان التحرير أبصرت شباب المحتجين وقد صنع سلسلة بشرية بهدف حماية المتحف ومقتناته.  

*

 بحلول منتصف الليل قصدنا  ـ أنا وشقيقي معا ـ منزله بحي مدينة نصر شرقي القاهرة. كانت المواصلات قد توقفت، وغابت حركة السيارات عن الشوارع إلا فيما ندر. قطعنا على الأقدام الطريق إلى ميدان “رمسيس”، فصادفنا حاجز لقوات الجيش سمح لنا بالمرور دون عناء أو جدال. ولاحقا اعترضتنا لجان شعبية تشكلت على الفور بعدما عرف الناس في الأحياء والبيوت بسقوط الشرطة.

أستوقفنا شباب غاية تسليحهم قطع من بقايا خشب. تأكدوا من هويتنا، وسمحوا لنا بالمرور مع إعطائنا “كلمة سر” نبلغها للجان التالية، منعا لإهدار الوقت في التحقق مجددا من بطاقاتنا الشخصية. وكنا نستريح بين الحين والآخر من عناء المشي بالجلوس إلى مقاعد محطات الأتوبيس. وربما غالبني النعاس من التعب في هذه المحطة أوتلك. ووصلنا بعد الثالثة فجرا بعدما ساعدتنا سيارة ملاكي على قطع مسافة ما من الطريق إلى منزل شقيقي.

 بحلول يوم 29 يناير 2011 تلاحقت الأحداث في ميدان التحرير الذي اصبح وجهة لي ولغيري بين الصباح والليل وحتى الفجر. كان إيقاع الأحداث سريعا باهرا.  وانخرطت ـ واحدا نفرا  ـ بين جموع الشعب الثائر في حركة ظلت ـ في اعتقادي ـ أكبر من أي قيادات أو تنظيمات. كما تحركت داخل المؤسسة الصحفية التي أعمل بها “الأهرام ” من أجل تغيير لم يأت، وذلك ضمن محاولات للعمل الجماعي لا أظن أن تاريخ الجريدة قد عرفها من قبل. وأيضا كتبت كما لم أكتب من قبل باندفاع وغزارة وجرأة وقوة معنوية. ومن بين ما كتبت ونشرت حينها سلسلة “مقالات الثورة وميدان التحرير” التي بلغت على مدى نحو عام ما يفوق الأربعين مقالا في تجربة جديدة فريدة .  كنت أكتب المقال في مساحة ورقة (أيه فور) من وجه واحد، وأصور منها مئات النسخ، وأقوم بتوزيعها  وجها لوجه ويدا بيد على قراء يتناقشون ويتجادلون  عن قضايا الثورة والوطن والمستقبل..  قراء من لحم ودم وروح ليسوا افتراضيين عبر ورق الطباعة أو شبكة الإنترنت. وكانت فكرة الكتابة والنشر الذاتي على هذا النحو قد أنارت النفس فجأة  ـ ومع قطع خدمة شبكة الانترنت ـ قبل أن يغلبني النوم في بيت شقيقي قبل صباح اليوم التالي لجمعة الغضب (****) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (*) كتبت ونشرت شهادتي عن يوم 25 يناير 2011 بعد ساعات تحت عنوان: “شاهد علي  يوم 25 يناير عاش قبل عهد مبارك” . كما كتبت ونشرت ووثقت في حينها ماجرى في “الأهرام ” بالتزامن مع مجريات الثورة تحت عنوان :” تمرد في الثكنة” في ثلاثة نصوص فضلا عن وثائق مرفقة، و في نقابة الصحفيين المصريين تحت عنوان :”النقابة المختطفة”. وقد صدر من القاهرة في عام 2012 كتاب بعنوان :”تمرد في الثكنة: الصحافة المصرية وثورة 25 يناير”، يتضمن هذه النصوص وغيرها من كتابات ووثائق جماعية.

(**) أعي تماما كصحفي مهني محترف عدم الخلط بين ممارسة العمل الصحفي الميداني خلال التظاهرات والاحتجاجات وبين المشاركة في فعالياتها . لكنني اعترف بأنني كثيرا ما وجدتني متورطا في هذا الخلط مع الوعي بالقواعد المهنية هذه. ويبدو أننا كصحفيين في عالم الجنوب وفي ظل أنظمة استبدادية تقترب من الفاشية أو هي ألوان من  الفاشية ذاتها ليس لنا رفاهية ممارسة هذا الفصل والتجنب. وربما كان وظل نضالنا من أجل الحريات مع مواطنينا الأحرار هو بالضرورة أيضا نضال من أجل حرية الصحافة ومهنيتها. حقا .. لم يكن ولن يكون لدينا رفاهية الامتناع عن المشاركة وبأجسادنا وحناجرنا وأوراحنا .  

(***) أصبح لاحقا من قادة حركة “تمرد ” عام 2013 وعضوا بالبرلمان. ورشح نفسه ليل 12 يناير 2021 لمنصب وكيل مجلس النواب بكلمة تحدث فيها باستفاضة عن تاريخه السياسي، ولم يذكر كلمة واحدة عن حركة ” كفاية” أو ثورة 25 يناير.

 (****) قمت بتوزيع أول مقال منها بميدان التحرير يوم 1 فبراير 2011 ، تحت عنوان “شرعية تسقط وشرعية تولد”. وعندما عاد الإنترنت أخذت أيضا في نشرها عبر موقع “البديل” الإلكتروني، الذي ترأسه الزميل الأستاذ/ خالد البلشي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *