عشر سنوات على ثورة يناير.. أحمد رمضان يكتب: حكايتنا من الميدان للميدان.. إهداء لإسلام الكلحي.. (ذكريات يناير)
إلى صديقي الصحفي المعتقل إسلام الكلحي، الذي يدفع الثمن بالنيابة عنا جميعا، أتذكر تلك الأيام ورحلتنا معا، عندما حلمنا بغد أفضل وعدالة غائبة.
هذه قصتي وشهادتي عن ثورة 25 يناير 2011، نشرت قبل ذلك عام 2017 في كتاب “4 أيام من يناير”، أعيد نشرها في الذكرى العاشرة للثورة، تغيرت الأيام والظروف، ولكن لم تتغير الأحلام والمشاعر بعد كل هذه السنوات.
نص الشهادة:
يقتلوننا ذبحاً وشنقاً وحرقاً وتغريقا وصلباً
على عمد جعلوها مُمددة وبالرصاص
لكننا.. سننتصر
نحن الآن يوم 24 يناير 2011، قبل ساعات من بدء دعوة التظاهر التي أطلقتها صفحة «كلنا خالد سعيد»، بالتزامن مع عيد الشرطة، للتعبير عن الغضب الشعبي من سياسات الرئيس حسني مبارك وحكومته ووزير داخليته حبيب العادلي، الجميع لا يعرف ماذا سوف يحدث غدا؟، الأعداد التي قد تشارك أو حتى كيف سيتعامل النظام مع الدعوة.
قبل هذه الليلة بشهور، قتل الشاب السكندري «خالد سعيد» بعد تعرضه لتعذيب شديد على يد أفراد من قسم شرطة محرم بك. حادث قتله وصورته والتي بدا عليها آثار تعذيب قوية جدا، حركت مشاعر الشباب، الذين اعتادوا التظاهر وتنظيم وقفات بسيطة من حين لآخر، بالتزامن مع عودة الدكتور محمد البرادعي رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابق، لمصر والمطالبة بإجراءات إصلاحية وتعديل دستوري.
كنت وقتها بدأت التدريب في مهنة الصحافة، شاب عمره 19 عامًا، غاضبًا مما يرتكبه النظام، وكان هذا الغضب المحرك الأساسي للمشاركة في العديد من الاحتجاجات الشبابية، شاركت في وقفة خالد سعيد بالإسكندرية، ذهبت بصفتي صحفيًا ومشاركًا، شاركت في تغطية انتخابات برلمان 2010 المزورة، كل يوم يزيد الغضب، كل يوم يزيد الغل على نظام قمعي يسلبنا الحق في الحياة، كل يوم تزيد الأماني في غد أفضل.
أشك أن أي مصري آنذاك كان يعرف أن شهورا قليلة تفصله عن ثورة شعبية كبيرة في 25 يناير، كان سقف مطالب المصريين وقتها حل مجلس النواب المزور وإقالة الحكومة البائسة التي جعلت من الشعب المصري بائسًا، وإقالة وزير الداخلية ومحاكمته وباقي قيادات الوزارة محاكمة عادلة على ما ارتكبوه في حق الشعب، لكن ثورة شعبية وخلع الرئيس ومحاكمته، لا أظن ولا وقتها أحد يظن ذلك.
في ليلة 24 يناير، كنا قد اجتمعنا في موقع الجريدة التي أعمل بها لتوزيع التغطية الصحفية لدعوات التظاهر في اليوم التالي، كل منا كان ينتظر أن يأتي الصباح، فيديو الشاب التونسي وهو يردد «بن علي هرب بن علي هرب» يرن في أذاننا، ماذا سيحدث في اليوم التالي؟، كلها أسئلة تدور في ذهن شاب صغير.
تجمعنا في صباح 25 يناير بمقر الجريدة، من يحمل كمامات تحسبا لقنابل الغاز، وآخر بيده «شنطة بصل» يوزعها على الآخرين، وثالث ظل يشعل الحماس في قلوب الباقين، لننطلق بعدها إلى أماكن توزيعنا للتغطية.
كانت تغطية مسيرة مسجد مصطفى محمود من نصيبي، توجهت إلى هناك لأجد عددًا قليلًا جدًا، وتجمعات بسيطة موزعة على أطراف الميدان، يمر الوقت ليصبح العدد عشرات بالكاد.
أبلغ الجريدة بتفاصيل التجمع «العشرات من الشباب في ميدان مصطفى محمود يرفعون العلم المصري وفي انتظار مسيرات أخرى لتنضم إليهم ثم يتم التحرك إلى ميدان التحرير». دقائق قليلة وبدأ التحرك، الأعداد فعلا قليلة على عكس ما كنت أتمنى، العشرات يسيرون في شارع البطل أحمد عبد العزيز، أصبحوا مئات، الهتافات تتعالى، قبل أن نصل إلى شارع التحرير أصبحت المسيرة ضخمة على امتداد عيني، لا أعرف ولا أحد يعرف من أين جاء كل هؤلاء البشر؟، لا أعرف ماذا حدث؟ إلا أنني هتفت واتصلت بصديقي وأقفز من الفرحة «دي مش مظاهرة يا إسلام دي شكلها ثورة».
نصل إلى ميدان التحرير بسلام، لا اشتباكات ولا قنابل غاز طوال الطريق، أجد في المسيرة شبابًا من سكان منطقتي، لم أكن أتصور لحظة أن يجمعنا الميدان، لا يوجد أي مبرر لتكون «الأحضان» هي طريقة سلامنا لبعض بشكل مفاجئ، كنا نشعر أن مجرد دخول الميدان هو انتصار في حد ذاته، لا أعرف ولكنها كانت الحقيقة، إننا الآن في ميدان التحرير وعددنا بالآلاف وتهل علينا مسيرات من كل اتجاه ترفع نفس العلم وتردد نفس الهتافات، «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية».
من حين إلى آخر كانت تحاول قوات الأمن فض التجمعات في الميدان، إلا أنه مع الوقت أصبحت الأعداد تتزايد، تهل علينا المسيرات من كل اتجاه، ولا نتوقف أبدا عن هتاف «مرحب مرحب بالثوار».
مع توقف محاولات الداخلية عن الفض بدأنا نجري اتصالات بالأصدقاء لنحثهم على ضرورة التواجد والمشاركة في حدث جلل وعظيم كهذا، لم نكن ندرك أننا أمام ثورة، كنا نهمس عن تجربة تونس منذ أيام قليلة، رحل بن علي ونزل الجيش التونسي في الشوارع، ولكن لم نكن نعرف ماذا سوف يحدث في مصر؟
جاءت لحظة فض الميدان في المساء، لظروف خارجة عن إرادتي كنت قد غادرت الميدان قبل الفض بقليل جدًا، لكن بدأت من هنا رحلة الثورة المصرية. لا أعلم لماذا لم أحزن بعد الفض؟، لم ينكسر قلبي كما كنت أتصور في حالة إذا ما غادرنا الميدان، وقتها أصبح لديّ يقين عن أن شيئًا ما سيحدث قريبًا جدًا.
ظهرت الدعوة لجمعة الغضب 28 يناير، ومع ازدياد جرأة الشباب على النزول إلى الشارع للاحتجاج، بدأت بصفتي صحفيا، في رصد دعوات ومسيرات مفاجئة ونوعية في مناطق متفرقة في القاهرة – وبالتأكيد السويس – مسيرات بسيطة ترهق الأمن في الشوارع الجانبية لشارع الهرم أو أخرى قريبة من دار القضاء العالي أو حتى في محيط أقسام الشرطة.
ليلة 26 يناير، اتصل بنا صديقنا المحامي أحمد الجيزاوي، ليخبرنا بأن مسيرة صغيرة تشتبك في شارع الهرم مع قوات الأمن، تحركنا بسرعة إلى هناك للتغطية الصحفية، لنجد عشرات الشباب، يمارسون هواية الثورة، كر وفر مع قوات الأمن، يخرجون سريعًا إلى الشارع الرئيسي يهتفون «الداخلية بلطجية» و«غلوا السكر غلوا الزيت بكرة نبيع عفش البيت»، لترد قوات الأمن بقنابلها، ويتفرق الشباب، ويخرجون مرة أخرى.
أتذكر السيدة العجوزة التي لا أعرفها، قررت فتح باب منزلها لتستقبلني أنا وصديقتي سارة جمال وكانت قوات الأمن تطاردنا، وأدخلتنا وكأنه منزلنا، وقالت «استخبوا هنا لحد ما يمشوا»، دقائق وتحدث معها شخص من الخارج يسألها «ماشوفتيش العيال يا حاجة»، لترد «لأ»، وتغلق الباب.
رفضت السيدة أن تتركنا نرحل إلا بعد أن تأكدت أن الشوارع المحيطة بمنزلها أصبحت أكثر أمانًا، فتحت لنا الباب الخارجي لتودعنا «ربنا معاكوا، ربنا ينصركوا»، لا أعرف ماذا كانت تقصد وقتها بـ«ربنا ينصرنا»، كنا شوية عيال، ولكن الآن أصبح لدى البعض تقييم آخر لما نفعله، أصبح هناك من يطلب من الله أن يبقى معنا.
أثناء عبورنا شارع الهرم إلى الناحية الأخرى، وقف ضابط شرطة ملثم، وقرر أن يرهبنا بسلاح إطلاق قنابل الغاز، أتذكر كلمته كما لو كانت اليوم «واقف عندك تعمل أية أجرى بدل ما أقتلكم»، نذهب بصحبة صديقنا الجيزاوي بعد فض المسيرة ولكن أدركنا وقتها أن اللعبة قد بدأت.
مر 27 يناير في استعدادات وتحضيرات ورصد لأماكن التجمع التي سننطلق منها إلى التحرير، كنت وقتها قد تأكدت أن أعدادا أكبر ستشارك في جمعة الغضب، روحي كانت ترفرف من الفرح.
تحرك كل منا إلى مكان انطلاقه في صباح 28 يناير، بحسب تقسيمة توزيع مهام التغطية الصحفية في المقام الأول، مسيرتي كانت من أحد مساجد إمبابة، لا أنسى كيف تفاعل معنا الأهالي في الشوارع، كيف كان يرج هتاف «يا أهالينا ضموا علينا»، قلوب الناس ويدفعهم بالفعل للنزول.
تحركنا إلى المهندسين ومنها إلى الدقي وحتى كوبري الجلاء، المئات من الجنود يصطفون بين العشرات من عربات الأمن المركزي، المسيرة تتوقف ولا تستطيع أن تكمل، حتى ظهر المدد، شاب قرر اقتحام الحاجز الأمني بكل قوته، ليشق صف المجندين ويشجع الباقين على الدخول، هنا ارتفعت صيحات «الداخلية.. بلطجية»، مع كل مرة كنا نردد هذا الهتاف كنا نقترب إلى ميدان التحرير خطوة، إلى أن تقهقرت قوات الأمن وقرروا الانسحاب، ونبدأ رحلة شارع قصر النيل.
العبور العظيم
هكذا وصف الثوار عبور مسيرة إمبابة والجيزة لكوبري قصر النيل، في البداية لم نكن نعلم تفاصيل ما يحدث في المقدمة، المسيرة ضخمة بشكل لم يكن يتصوره أحد، لا نعرف إلا أن البعض نجح في الوصول إلى وسط الكوبري وقاموا بأداء صلاة العصر أمام قوات الأمن، أما تفاصيل الاشتباكات أغلبنا لم يعرفها رغم محاولاتنا الدائمة التوجه إلى أول المسيرة، كل من في المسيرة لديه شغف وإصرار، أن يكون في المقدمة.
سقطت علينا قنابل الغاز بالمئات، من كل اتجاه نجد قنبلة في وجوهنا، بدأنا نسمع أصوات الرصاص الحي، يمر الوقت وتتقدم المسيرة شيئا فشيء، الهتافات تتعالى «الشعب يريد إسقاط النظام»، الشباب يتبادلون أماكنهم في الصفوف الأمامية.
دقائق ووجدت شابا يحمله الثوار من أول المسيرة يعودون به إلى الخلف، تلقى رصاصة في قلبه، اقتربت منه، لنرى شابا يفارق الحياة، اكتشفت بعد ذلك أنه الشهيد «مصطفى الصاوي». بكاء ودموع مختلطة بهتافات لم نتوقف عنها ثانية «الشعب يريد إسقاط النظام»، «يسقط حسني مبارك»، الأصوات ترج الكوبري والميدان. فجأة ظهرت مدرعات الجيش قادمة من خلفنا، للحظة قتلنا الرعب، هل يطلق الجيش النار علينا كما تفعل الداخلية، كنا بالفعل نخشى ذلك حتى وإن لم يقل هذا أحد، ولكن تكفيني نظراتنا لبعضنا البعض.
انتهت معركة كوبري قصر النيل ودخل الثوار الميدان وهربت الداخلية، واقتحم البعض مبنى الحزب الوطني، توقفت أمام شباب رأوا البعض يحمل كراسي مسروقة من مبنى الحزب القريب من قصر النيل، تركوا القتل والاشتباكات ومدرعات الجيش وأصروا على إعادة محتويات الحزب إلى مكانها.
وقتها كان أكثر همنا هو التواصل مع أسرنا، الاتصالات مقطوعة، ولا نعرف ماذا يجب أن نفعل؟، حتى اقترح علينا صديق البحث عن هاتف أرضي للتواصل. «أنت فين يا أحمد أبوس أيدك ارجع البيت مش عارفين ولا فاهمين حاجة»، أمي تحدثني عن لحظات خوفها التي لا أعرف كيف نقلت إليها رغم أن وقائع اليوم لم تبثها وسائل الإعلام أو القنوات إلا قليلًا، أخبرها أن الثورة نجحت وسنجبر الداخلية على احترامنا أطمئنها أنا بخير.
مشاعر متداخلة لا أملك سوى أن أتذكر كل تفاصيل الثورة وأيامها، كيف كنا هناك، في التحرير؟، نبحث عن ذاتنا وآمالنا وطموحاتنا قبل أن نبحث عن خلع النظام، ربما ستظل ثورة يناير أعظم عمل شاركت فيه، ربما العمل العظيم الوحيد الذي كنت حريصًا أن أكون جزءًا منه منذ اللحظة الأولى له. مرت أيام الثورة وسقط الشهداء وما زلنا نحلم.