محمد عيسى يكتب: أنا عيشي اتقطع خلاص.. العمال قبل الأرباح!
ما زلت أتذكر بداية عهد معرفتي لمعاناتهم، كنت آنذاك طالبًا في الصف الأول الإعدادي، عندما عرقلت المصادفة والدي للتحاور مع أحد زملائه من العمال المُسرحين من إحدى شركات الغزل والنسيج، لفت انتباهي الحديث الذي دار بينه وبين والدي للحظات، ولم أتخيل أن هناك شيئًا في هذه الحياة يستحق نظرة الانكسار التي كانت في عينيّ الرجل وهو يقول لوالدي: «أنا عيشيّ اتقطع خلاص»، تسارعت دقات قلبي، ورمقته بنظرة مفعمة بمزيج من العطف والاستغراب، ثم سألت والديّ بعد أن بارحنا المكان «هو عمو ماله يا بابا»، لم يجبني والدي آنذاك، واكتفى بالدعاء له ولأسرته، فمنذ ذلك الحين ترسخ هذا الموقف في وجداني، وكلما التقيت بالرجل الذي يعمل الآن ماسح أحذية، أتذكر هذا الموقف، وكأنه حدث في الأمس القريب.
تكرر مثل هذا الموقف مرة أخرى أمام الجامعة التي أدرس فيها، ولكن في هذه المرة والدي لم يكن حاضرًا معيّ، فالفضول دفعني للتحاور مع رجل أربعيني يبيع مناديل في محيط الجامعة التي كنت أدرس فيها، وأنا طالب في الفرقة الأولى، علمت منه أنه تم تسريحه هو وزملاؤه من إحدى شركات القطاع الخاص، فاضطر إلى الاشتغال بهذا العمل المتواضع حتى يتسنى له سد رمق أولاده، هالتني حكايته، وأفزعني أكثر معرفتي المسبقه بأن حكايته هو وزملائه ليست إلا حكاية وحيدة من ضمن آلاف الحكايات التي تجسد المظالم التي تعرض لها آلاف من العمال في مصر خلال العقود الماضية، فطالما اتخذ مثل هذا الإجراء التعسفي دون أن يعبأ مُتخذ هذا الإجراء بمستقبلهم أو بمستقبل ذويهم.
علمت فيما بعد بمعاناة عمالة المياومة التي هي أشد وطأة من معاناة العمال المعينين بعقود ومؤمن عليهم، رأيت أحدهم وهو يتودد ويتضرع إلى رئيسه المباشر في العمل لكي يسمح له بالعمل ليوم إضافي ليتمكن من تلبية احتياجات أسرته وابنه المريض، والمشكلة في السماح له أن هذه الرخصة كانت ستأتي على حساب زميل آخر له من عمال اليومية، وتكمن المأساة في أن محل العمل المتنازع عليه لم يستطع كاتب هذه السطور تكبده، عندما أراد أن يقتات منه في إحدى الأجازات الموسمية، فلك أن تتخيل مدى مشقة هذا العمل، دون أن توجد ثمة ضمانات لهؤلاء العمال إذا أصيب أحدهم أثناء ممارسته هذا العمل في ظل عدم أمتداد مظلة التأمين لتغطيتهم.
لم يكن هذا كل ما رأيته، فعملي كمندوب للمبيعات أتاح ليّ الفرصة لمشاهدة العمال في إحدى المناطق الصناعية وهم يعملون في الحر القائظ، بالرغم من عدم وجود ثمة ضمانات لحمايتهم، والأنكى هو عملهم تحت تهديد سلاح التسريح الذي قد يكون بيد رب العمل في أحيان، ناهيك عن استجهاله للعمال بمعرفة حقوقهم في أحيان أخرى، وتجلى هذا عندما حكى ليّ أحد العمال المفصولين فصلًا تعسفيًا عن مطالبة صاحب العمل الذي كان يعمل لديه كتابة استقالته لكي يتلافى مغبة الإجراء التعسفي – وهو فصله بدون مبرر – الذي اتخذه ضده.
كما أتاحت الظروف الإستثنائية التي يمر بها العالم الفرصة للعيان، لرؤية الانتهاكات التي يتعرض إليها العمال، لاسيما إذا كان هؤلاء العمال من عمال اليومية، من قبل رؤوس الأموال، فجشع ونتانة الكثير منهم – التي لا تضارع- دفعتهم إما إلى تسريح العمال الذين يعملون عندهم كما فعل الكثير من رجال الأعمال، أو إلى الإشاحة بوجوههم عن الأوضاع الراهنة دون اتخاذهم إجراءات وقائية لحماية العمال من خطر الإصابة بفيروس «كورونا» سريع الانتشار، فبكل أسف هذا هو وضع العمال في مجتمع رؤوس الأموال الذي لم يعِ جملة رددها المناضل اليساري الأستاذ هيثم محمدين طويلًا خلال السنوات الماضية تقول (العمال قبل الأرباح).