حكاية سؤال خلال مؤتمر السيسي وماكرون: عندما تدافع عن القمع فتثبته.. (عن الاستبداد وحرية الصحافة والحكم الديني)
صحفي بـ”اليوم السابع” يحاول القاء الكرة في الملعب الفرنسي بعد الحديث عن حقوق الإنسان: لماذا لم تعتذر فرنسا عن الرسوم.. وماكرون: لا نعطي تعليمات للصحافة
ماكرون: في فرنسا حرية صحافة ولا يوجد رئيس أو هيئة تقول لصحفي ماذا يكتب.. وهذا حالنا منذ الثورة الفرنسية
عندما قال الرئيس السيسي إن القيم الدينية أعلى من القيم الإنسانية.. فرد ماكرون: هذا يعني أننا سنحكم بالدين.. لا شيء أسمى من الإنسان
كتب – أحمد سلامة
جدل كبير أثير بين المتابعين وعبر مواقع التواصل الاجتماعي و”السوشيال ميديا” عقب المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.
فرغم تأكيد ماكرون على أن قضية حقوق الإنسان لن تحول دون تطور العلاقات المصرية الفرنسية إلا أن المسألة ألقت بظلال كثيفة على الفوارق بين الأوضاع و “المفاهيم السياسية الحاكمة” في كلا البلدين.
الرئيس الفرنسي قال -خلال المؤتمر- إن إشراك المجتمع المدني النشط أحد أهم السبل في مكافحة الإرهاب، موضحا أن باريس أشادت بإطلاق سراح المسؤولين الثلاثة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، كما أن لديها “قائمة بأسماء نشطاء آخرين” تأمل في إطلاق سراحهم، لافتا في الوقت ذاته إلى أن بلاده لم تضع شروطًا للتعاون مع مصر.
ما قاله ماكرون، قد يوصف في نظر البعض بأنه إمساك لمنتصف العصا.. فما بين أزمات في ليبيا وشرق المتوسط وما بين انتهاكات حقوق الإنسان جاءت الزيارة في وقت عصيب.. في ظل مطالبات منظمات المجتمع المدني للرئيس الفرنسي برفع الدعم غير المشروط عن “القاهرة” بسبب التضييق على المجتمع المدني.
استضافة “الإليزيه” للرئيس المصري أتت في وقت شنت فيه منظمات المجتمع المدني هجوما حادا على الأوضاع الحقوقية في مصر، لكن باريس كانت بحاجة لهذا الاجتماع في ظل الوضع المتأزم للسياسة الخارجية الفرنسية إضافة للتأثيرات الاقتصادية بسبب تفشي فيروس كورونا.
قبيل بدء زيارة السيسي إلى باريس بأيام قليلة، وبالتحديد في يوم الأربعاء 2 ديسمبر، طالبت 17 منظمة حقوقية الرئيس الفرنسي الضغط بشدة على نظيره المصري للتصدي لوقف انتهاكات حقوق الإنسان، وحثه على إطلاق سراح النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان المحتجزين تعسفًا في مصر.
وتحت عنوان “يجب إنهاء الدعم الفرنسي غير المشروط لمصر” قال بيان صادر عن المنظمات إنه “لطالما تساهلت الدبلوماسية الفرنسية بشكل واسع النطاق مع قمع الرئيس السيسي القاسي لأي شكل من أشكال المعارضة. وخلال الزيارة، أمام الرئيس ماكرون فرصة لن تتكرر للدفاع عن التزامه المعلن بتعزيز حقوق الإنسان في مصر. وفي ذلك، تقول المنظمات الموقعة أن تداعيات عدم الإفراج عن النشطاء والمدافعين المحتجزين تعسفًا في مصر، بل ومكافأة الذين سجنوهم ظلمًا بصفقات الأسلحة والثناء، ستدمر ما تبقى من حقوق الإنسان وتقوّض التزامات الرئيس ماكرون الحقوقية في مصر”.
وبحسب (فرانس 24) فقد دعت 20 منظمة لتنظيم مظاهرة الثلاثاء المقبل، أمام الجمعية الوطنية الفرنسية للتنديد بـ”الشراكة الاستراتيجية” بين مصر وفرنسا تحت شعار “مكافحة الإرهاب”.. وقال أنطوان مادلين، المسؤول في الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، إحدى المنظمات الداعية إلى المظاهرة: “إننا مذهولون لرؤية فرنسا تمد البساط الأحمر، في حين هناك اليوم أكثر من ستين ألف معتقل رأي في مصر”.
ولفت مادلين إلى أنه بعدما طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من نظيره المصري خلال زيارة إلى القاهرة في مطلع 2019 “حماية حقوق الإنسان”، حصل منذ ذلك الحين “تصعيد في القمع” أفضى إلى “أخطر وضع في تاريخ مصر الحديث”.. مضيفا أن “محامين وصحافيين ومدافعين عن حقوق الإنسان يتعرضون لملاحقات ومضايقات وقمع في البلاد”.
وأوضح أن “الانتقال من الأقوال إلى الأفعال” يعني “وقف صفقات الأسلحة ومعدات المراقبة الإلكترونية من شركات فرنسية في الظروف الحالية، وإلا فستكون متواطئة في القمع”.
كل ذلك ألقى بظلال التوتر على المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيسين، خاصة وأن المؤتمر شهد محاولات من البعض للخلط المتعمد بين “حقوق الإنسان” والحديث عن “المقدسات”.
أحد الصحفيين المصريين بـ”اليوم السابع” المصاحبين للزيارة الرئاسية، توجه بسؤال للرئيس الفرنسي خلط فيه بين “حقوق الإنسان” و “الدين” وفي محاولة لالقاء الكرة في الملعب الفرنسي على حد تصوره طالب الرئيس الفرنسي بالاعتذار باسم فرنسا عن خطأ صحفي، وأكمل الرئيس السيسي في تعليق على السؤال “أن المبادئ الدينية هي أعلى من المبادئ الإنسانية”، الملفت أن سؤال الصحفي نفسه جاء ليعكس المناخ الذي تعيشه الصحافة المصرية، وهو ما يبدو أن الرئيس الفرنسي التقطه ليؤكد أن الصحافة في فرنسا لا تأخذ تعليمات ولا يجوز تحميل فرنسا استفزاز صحفي.
الزميل الصحفي وجه سؤالا إلى ماكرون قال فيه “إذا كنا نتحدث عن حقوق الإنسان فأعتقد أن حقوق الإنسان هناك مرتبة أعلى منها وهي المقدسات.. لم نسمع من فرنسا عن إعتذارًا عن الرسوم المسيئة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم”.
ليأتي رد ماكرون “أود أن تفهموا ما حدث، في فرنسا هناك حرية صحافة، صحفى يُصِر أن يرسم أو يكتب ما يريد، ولا يوجد أي رئيس أو هيئة لا تقول له ماذا يكتب.. وهذا حول الحال منذ الثورة الفرنسية ومنذ الجمهورية الفرنسية، وهذا جزء من حقوق الإنسان”.
ماكرون حاول خلال رده على السؤال وضع خطوط فاصلة بين “السلطة التنفيذية” وبين “الحريات” حين قال “الرسوم الكاريكاتورية ليست رسالة من فرنسا إلى المسلمين، هذا تعبير من مصور، هذه الرسوم والمقالات التي تصدمكم ليست صادرة عن السلطات الفرنسية أو عن الرئيس الفرنسي.. لا تعتبروه استفزازا من السلطات.. ولكنها تصدر من صحفي أو مصور.. وهناك من يرد عليها بهدوء.. بعض الرسوم المسيئة صدمتكم وأنا آسف من صدمة هذه الرسوم.. ولكن علينا الرد عليها بسلام.. ولكن عندما يشرع العنف ضد من يرسم الرسوم في هذه الحالة نختلف في الرأي.. لن نقبل السماح بالعنف بحق كلمة أو رسم.. مرفوض تماما إضفاء شرعية العنف ضد من يرسم أو يكتب.. وهذا إطار متميز وخاص في فرنسا”.
هنا تدخل الرئيس الرئيس عبدالفتاح السيسي، حيث دعا العالم الغربي والمتقدم، إلى إعادة التفكير في مسألة جرح الملايين في مشاعرهم الدينية، قائلا: “جرح ملايين الناس في مشاعرهم الدينية ويهينهم في دينهم أتصور أن هذا الأمر يحتاج التفكير فيه ومراجعته.. فالقيم الدينية أعلى بكثير من القيم الإنسانية لأننا احنا اللي عملناها ونستطيع أن نطورها، فالقيم الدينية مقدسة وتسمو فوق كل المعاني والقيم”.
لكنه استدرك أن “مصر كان موقفها واضح بمنتهى الحزم والشدة في إدانة أي عمل إرهابي على أي أرضية.. ولا يمكن أن تكون مبررا أبدًا لأي عمل إرهاب ضد أي دولة”.
ليأتي رد الرئيس الفرنسي “قيمنا منذ الثورة الفرنسية تقول لا شئ أسمى من الإنسان، الفرد العاقل الحر، وهي تعلي كل ما هو إنساني على كل شئ.. لا يمكن لنا أن نقر بأن القيم الدينية أعلى من الإنسانية هذا يعني أننا سنحكم بالدين واللاهوت حكما ثيوقراطيا.. وعلى الصعيد الدولي القيم ليست مؤطرة بالدين”.
سؤال الزميل الصحفي حول “المقدسات” دفع البعض إلى الربط بينه وبين السؤال الذي وجهه “راديو فرنسا الدولي” إلى الرئيس السيسي حول ملف حقوق الإنسان في مصر، والذي قال في رده إن “لدينا 55 ألف جمعية مجتمع مدني و100 مليون في مصر.. فكم منهم اشتكى من أنه غير ممكن من العمل بسهولة ويسر؟.. اهتمامكم وكأننا قادة شرسين مستبدين وهذا لا يليق أن تقدموا الدولة المصرية به.. إننا مطالبون بحماية دولة من تنظيم متطرف ظل في مصر من 90 سنة.. أنا مطالب بحماية المائة مليون من مصير ليبيا والعراق وسورية واليمن ولبنان وأفغانستان وباكستان.. ليس عندنا ما نخاف منه أو نُحرج منه.. نحن نبني في ظروف منتهي القسوة والاضطراب”.
الحديث حول “الحريات” و “المقدسات”، دفع قطاعات كبيرة من رواد مواقع السوشيال ميديا إلى توجيه انتقادات تمحورت حول التضارب والتناقض بين (تحميل القيادة السياسية لفرنسا مسئولية الرسوم المسيئة) وبين (زيارة الرئيس المصري لفرنسا التي رعت الرسوم المسيئة).. ودارت الانتقادات حول تساؤل رئيس هو (إذا كانت السلطات الفرنسية هي راعية الرسوم المسيئة فلماذا كانت الزيارة؟.. وإذا كانت السلطات الفرنسية غير مسئولة عن الرسوم المسيئة فلماذا الحديث عنها ومطالبة باريس بالاعتذار؟).
ومع التأكيد التام على رفض الإساءة إلى النبي مُحمد بأي شكل أو طريقة، لما له من قيمة كبرى في قلوب المؤمنين به، فإن البعض رأى أن الانتقال للحديث عن “المقدسات” هو “محاولة سياسية” لفرض وضع متعادل يتم من خلاله تسوية الرفض السائد للملف الحقوقي وإنهاؤه.
التناظر حول ذلك خلال المؤتمر الصحفي الرئاسي، دفع المتابعين إلى الحديث حول ثلاث نقاط أساسية تتعلق بمفهوم “الثيوقراطية” ومسبباتها، وحدود “السلطة” في العالم المتقدم ومساحات “الحريات” الممنوحة.
وكلمة ثيوقراطية تتكون من كلمتين مدمجتين هما” ثيو” وتعني الدين “وقراطية” وتعني الحكم، وعليه فان الثيوقراطية هي نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته أو بالأحرى شرعيته مباشرةً من الإله، والمقصود أن بنظام الحكم الثيوقراطي هو نظام الحكم الذي يعتبر أن الله هو السلطة السياسية العليا، وأن القوانين الإلهية هي القوانين المدنية الواجبة التطبيق، وبالتالي فإن رجال الدين بوصفهم الخبراء بتلك القوانين الإلهية تتمثل فيهم سلطة الله، والتي يكون لزامًا عليهم تجسيدها من خلال فرض وتطبيق قوانينه السماوية.
لكن كثيرٌ من المهتمين بالشأن العام يؤكدون أن المجتمع المصري رفض هذا النظام “الثيوقراطي” حينما خرج على جماعة الإخوان في 2013، وهو ما ألمح إليه الرئيس السيسي بنفسه خلال المؤتمر الصحفي حين قال “إنه مُطالب بحماية المصريين من جماعة موجودة منذ 90 عامًا.. وحماية البلاد من مصير (أفغانستان وباكستان)”.
بل إن البعض ذهب إلى أبعد من ذلك، حينما أكد أن الحرب على الإرهاب هي في مضمونها حرب على “الفكر الثيوقراطي” الذي تتبناه الجماعات المتطرفة.. وبالتالي فإن هناك توافق بين “مصر الرسمية” و “مصر الشعبية” على رفض هذا النظام.
وعلى هذا الأساس، فقد أعرب البعض عن ارتيابه من تداخل الحديث بين “المقدسات” و”حقوق الإنسان” ووضعهما في إطار “مقارنة” وكأن أحدهما لن يحيا إلا على جثة الآخر.. بينما في المقابل رأى البعض أن الإسلام لا يعرف الثيوقراطية من الأساس فالحاكم وفقا لـ”المنظور السياسي في الإسلام” هو مختار من “الأمة” فلا قداسة له، ومن حق الأمة عليه أن تقومه إذا أخطأ، مستشهدين في ذلك بقول الخليفة أبو بكر الصديق (إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني).
ماكرون خلال اللقاء أعرب عن تخوف شديد لديه، وربما لدى أمة كاملة، من سيطرة الفكر المتطرف عبر “الثيوقراطية”، مشيرًا في ذلك السياق إلى أن القوانين والمواثيق الدولية غير مؤطرة بالدين.. في تلميح إلى ضرورة “أنسنة” كل ما يتعلق بالأعراق البشرية المختلفة والمتباينة مع تنحية كل ما يتعلق بالثيوقراطية خشية امتدادها وتوسعها لتصبح نُظما حاكمة.
لكن البعض ألمح في السياق ذاته إلى “حدود السلطة” المتاحة لرئيس فرنسا وفقا لدستور بلاده، ومساحة الحريات.. ناقلين في ذلك تأكيد ماكرون على “حرية صحافة”.. وبالأخص حين قال “صحفى يُصِر أن يرسم أو يكتب ما يريد، ولا يوجد أي رئيس أو هيئة لا تقول له ماذا يكتب.. وهذا حول الحال منذ الثورة الفرنسية ومنذ الجمهورية الفرنسية، وهذا جزء من حقوق الإنسان”.
وفي الوقت الذي أشار البعض فيه بأصابع الإدانة لهذا التصريح ارتكازا على منع الصحف الفرنسية من التطرق لقضية “الهولوكوست”، فإن الجُملة ألقت بقعة ضوء كبرى على ترسيخ الحريات وطريقة تعامل السلطة مع الحريات.. مشددين على أن ذلك ربما هو السبب في تقدم دول الغرب في حين مازلنا نتخبط في توصيف وتحديد طبيعة العلاقة ونعاني من محاولات سحق إحداهما لحساب الأخرى.
best suited article