ريهام الحكيم تكتب: التطبيع العربي وصراع التوازُنات الإقليمية
ألقت الإمارات العربية المتحدة بحجر ثقيل في مياه العلاقات العربية – الإسرائيلية بعد إعلانها رسمياً تطبيع العلاقات مع تل أبيب، في خطوة وصفها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بـ”التاريخية”. فيما بدا للمراقبين كهدية تقدمها الإمارات العربية لترامب على مذبح الانتخابات الأمريكية حتى لو بدت بلا مقابل مباشر، أو لو كان السبب الابقاء على السياسات الامريكية الحالية بالمنطقة سواء تجاه ايران أو غيرها من الملفات، وهكذا فإنه على غير المعتاد في اتفاقات مشابهة، أو ما تم إعلانه هذه المرة من أن الاتفاق جاء في إطار تفاهمات مع اسرائيل بشأن القضية الفلسطينية، فإن التطبيع هذه المرة أصبح جزء من لعبة الانتخابات الامريكية ، وبدا أن هناك أطراف بالمنطقة مستعدة للتبرع بعلاقات رسمية مع اسرائيل من أجل الانتصار لمرشح امريكي .
بالرفض المطلق، وبكلمات غير مآلوفة، استقبلت منظمة التحرير الفلسطينية، وحركتا “الجهاد الإسلامي” و”حماس” الإعلان الثلاثي “الأميركي/ الإسرائيلي /الإماراتي” معتبرين إياه بمثابة “خيانة للقدس، وطعنة في ظهر الشعب الفلسطيني”. فالاتفاق نصّ على إقامة علاقات طبيعية بين الإمارات وإسرائيل، في مقابل تجميد الخطة الإسرائيلية لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية.
يتضمن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي – طبقا للمعلن رسميا – تعليق إسرائيل خطتها لضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة في الأراضي الفلسطنية مقابل ان تقيم دولة الإمارات العربية علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل. كما شمل الاعلان عن تبادل للاستثمارات و توقيع اتفاقيات مشتركة في مجالات التربية والتعليم والتجارة والسياحة والأمن بين البلدين.
وتعد الإمارات أول دولة خليجية وثالث دولة عربية تقيم علاقات رسمية كاملة مع إسرائيل بعد مصر والأردن وتوقع دونالد ترامب أن تعلن دول عربية وإسلامية أخرى تطبيع العلاقات مع إسرائيل قريبا.
بين الصدمة والجدل حول توقيت الاعلان عن تلك الخطوة التي أقدمت عليها الإمارات وباركها كلا من السعودية ومصر واعتبروها خطوة على طريق السلام في الشرق الأوسط. نددت كلا من: تركيا, التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل منذ عقود, وإيران بالاتفاق على إقامة علاقات رسمية بين الإمارات وإسرائيل، واعتبرتاه “خيانة لحقوق الشعب الفلسطيني”.
انتقد المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل. وقال في تغريدة على موقع تويتر: “إن التاريخ سيسجل هزيمة الأطراف التي خانت الشعب الفلسطيني وقضيته”.
وصفت إيران الاتفاق بأنه “خطوة خطيرة وأن الجمهورية الإسلامية تعتبر خطوة العار التي أقدمت عليها أبوظبي لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني خطيرة”. أما حسن نصر الله الامين العام لحزب الله فوصف الاتفاق بـ ” خيانة للإسلام والعرب، وقال إنه جاء خدمة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب والانتخابات الأمريكية.”
أعرب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن “تقديره” للإتفاق على إيقاف ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية واعتبرها خطوة لإستقرار منطقة الشرق الأوسط وإحلال السلام”.
بين الترحيب والتنديد, تقف خطوة التطبيع مع إسرائيل لتفتح السؤال حول تبعات هذا القرار على الصراع الإقليمي وتوزيع القوى والتحالفات على الأراضي العربية.
الشرق الأوسط وتغيير المعادلة الإقليمية
لم يشهد الشرق الأوسط منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، قبل قرن من الزمان ما يشهده الآن من تشنّج واضطراب إقليمي وصراع داخلي. المنافسة بين القوتيين المملكة العربية السعودية وإيران، من العوامل التي تزيد الأمر تعقيداً.
وتعد أهم تداعيات الاضطرابات التي أعقبت ثورات الربيع العربي 2011، هو اعادة توزّع القوى الإقليمية. فالبلدان التي كانت تحت حكم سلطوي فردي ومؤسسات ضعيفة، مثل وسوريا وليبيا ,سقطت في غمرة الفوران الشعبي والصراع الداخلي.
وكان لإيران، وحزب الله، وسوريا وما يسمى بـ”محور ممانعة” يجمعه العداء لإسرائيل ويعارض نظام الأمن الإقليمي الذي تتزعّمه الولايات المتحدة. عمدت إيران إلى الإستفادة من التصدّع المؤسّسي والانشقاقات الطائفية اللاحقة التي حدثت في سوريا واليمن 2011, كما استطاعت التوغل في الداخل العراقي عقب 2003. وأثار هذا التوغل الإيراني فزع كلا من إسرائيل، والمملكة العربية السعودية، والإمارات التي كانت مخاوفها من تلك المخاطر تتقارب وتتقاطع بصورة مضطّردة خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يفسر إقدام الإمارات على خطوة التطبيع العلني مع إسرائيل.
تحدث د. علي الدين هلال أستاذ العلوم السياسية في بحثة ” الدرسات الإقليمية في الشرق الأوسط “، أن النظم الإقليمية ليست ثابتة أو جامدة، لكنها تتطور وتتغير بفعل عناصر ذاتية داخلية أو عناصر خارجية.
” العناصر الداخلية: التغير في أشكال النظم السياسية والسياسات الاقتصادية المتبعة، وحدوث تغيرات جوهرية في نمط الإمكانات وتوزيع القوة بين وحدات النظام مثلما حدث في النظام الإقليمي العربي مع ظهور الثروة النفطية، أو الأزمات التي أصابت دولاً لعبت أدوارًا أساسية في مراحل سابقة مثل غزوالعراق والحرب في سوريا وليبيا و اليمن.
أما العوامل الخارجية، فيمكن أن تتمثل في تغير أنماط العلاقة بين القوى المهيمنة في النظام العالمي ومجمل النظام الإقليمي أو بعض أعضائه، أو في تغير العلاقة بين النظام الإقليمى والدول المُجاورة له، مثلما حدث في حالة تغير نمط علاقات أعضاء النظام العربي بدول جواره الأساسية: تركيا وإيران وإسرائيل، والتي كان من شأنها تغير توازن القوى بين النظام العربي ككل وتلك الدول لصالحها.”
ويُعد كلاً من ” النفط والاسلام السياسي” شكلاً ومحوراً أساسياً للصرعات والأزمات في المنطقة, أزمات الشرق الأوسط تغيّرت في السنوات الأخيرة, خاصة بعد البروز التدريجي للإسلام السياسي بين عامي (1973 ـ 2010).
كتب المفكر الفرنسي جيل كيبيل في كتابه “بعيداً عن الفوضى، الأزمات في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط“ إن اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، وحرب أفغانستان ضد السوفيات عندما هزم ما يسمى “الجهاد الإسلامي” الشيوعية ثم انهزم هو الآخر بوصول الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق الأوسط، وتركيز وجودها على سواحل البحر الأبيض المتوسط.وفي 2001و صعود المحافظين الجدد في أميركا، واليمين المتطرف في أوروبا، وبالتالي خلقت تدخلات عسكرية في مواجهته (مثلما حدث في أفغانستان، والعراق) عملت على تغذية الفكر الجهادي من جديد.
وبعد 2011 سُمحت للحركات الإسلامية الراديكالية، بالظهور بقوة على ساحة الصراعات الإقليمية, فخلف الربيع العربي وقفت الإسلامية الجهادية التي سمح لها انهيار الأنظمة الاستبدادية بالتسلل لتحل مكانها وتحولت مجريات الاحداث إلى الأسوء”
يقول بيري كاماك الباحث في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي” أن أربعة عوامل كانت سبباً في تنامي الصراع في الشرق الأوسط :
*توازن القوى الإقليمي بدأ يشوبه الغموض والتقلّب في أعقاب انتفاضات العام 2011 وبفعل الغزو الأميركي للعراق في العام 2003.
*النزاعات المحلية أصبحت المسرح الذي تدور عليه المنافسات الإقليمية المتواصلة على هيئة صراعات أوسع نطاقاً وأشدّ فتكاً.
*توريد السلاح إلى المنطقة تعاظم بصورة حادة، وهي صفقات التي تتنافس فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بصورة نشطة.
*الشرق الأوسط يعاني من شحٍّ ملموس في معايير الحرب وآليات فضّ النزاع، بالمقارنة مع مناطق العالم الأخرى. وكان من نتائج ذلك أن المنطقة تحوّلت بجميع بقاعها إلى وكر دبابير من التدخّلات العسكرية.
في سوريا ,عندما أطلقت روسيا عمليتها العسكرية 2015، قال الكرملين إن أولويته تتلخص في دحر الإرهاب الدولي. ولكن ما من شك في أن أحد أهداف التدخل كان اعادة النفوذ الروسي إلى المنطقة.
و بعد سنوات أربع من إطلاق موسكو لعمليتها العسكرية في سوريا، أستطاعت موسكو أن تستحوذ على دور قيادي بجانب واشنطن في المنطقة.
روسيا هي الداعم الرئيسي لنظام الرئيس بشّار الأسد سياسيا وعسكريا. وكلما استعادت قوات الحكومة السورية المزيد من الأراضي، كلما كان ذلك لمصلحة موسكو.
تقول ميشيل دن الباحثة أيضا في مركز “كارينغي للسلام”: أن” سلوكيات القوتين العالميتين – الولايات المتحدة وروسيا – قد عززت التلاحم بين هذه التحالفات الوليدة وحوّلتها إلى ما يشبه الكتل الإقليمية. ذلك أن تدخّل روسيا العسكري في 2015 لنصرة حكومة بشار الأسد أدخلها في شراكة عسكرية مع إيران، وسوريا، وحزب الله.
وحاولت إدارة أوباما أن تركب موجة الانقسامات الإقليمية، مع مواصلة التعاون مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتفاوض في الوقت نفسه حول خطة العمل الشاملة في مايتعلق ببرنامج إيران النووي. غير أن الكتلة المعادية لإيران ازدادت قوة بعد عجز الإدارة عن ترجمة هذه الخطة إلى أسلوب عمل جديد مع إيران حول أنشطتها الإقليمية، التي تزامنت مع وصول إدارة ترامب الصقورية إلى السلطة وانسحابها من خطة العمل المشتركة في مايو 2018″.
تحدثت دن عن تناقضات داخلية داخل التحالفات الوليدة , فمثلا سوريا وهي نقطة الارتكاز للتعاون “الروسي الإيراني”، إلا أن روسيا تحاول العمل من خلال المؤسسة العسكرية السورية غير الطائفية، اسمياً، بينما تستخدم إيران الميليشيات الطائفية التي تقوّض تماسك الدولة.
استشهدت الباحثة برد فعل روسيا الخافت على الغارات الجوية الإسرائيلية واسعة النطاق في مايو 2018 على المرافق الإيرانية داخل سورية- بالمقارنة مع احتجاجاتها المجلجلة على الضربات الجوية المحدودة التي قامت بها الولايات المتحدة على ما يشتبه بأنه أسلحة كيميائية ،و هو ما يوحي بأن روسيا لم تنزعج لخفض قدرة إيران العسكرية داخل سوريا.
حروب الوكالة
أصبح الشرق الأوسط زخماً كثيراً لحروب أطراف عدة, بعضها إقليمي وآخر دولي, أخذت شكل حروب بالوكالة، وعلاوةً على ذلك فإن سياسات القوى الكبرى تهدف إلى تغيير توازن القوى السائد فى المنطقة، طبقاً لمصالحة كل قوة وهوما يُحتم على كلاً منها أن يكون لها حضور فى أزمات المنطقة، بل والقدرة على طرح المبادرات والحلول أو فرضها فى بعض الأحيان بما يتلائم مع مصالحها ويٌعزز من نفوذها فى المنطقة، كل هذه التغيرات والأحداث الإقليمية ليست على سبيل المصادفة بل هى نتيجة تراكمات لأزمات عدة وجدت الحافز المحلى بالدول العربية وحركها العالم الخارجى بأيادي محلية.
وفي الصراع العربي الإسرائيلي, فإن معظم الحروب التي خاضها العرب ضد إسرائيل لم تصل إلى حل للصراع.
تلعب إسرائيل تجاه مصالحها فى المنطقة بصفة عامة من خلال إندفاعها التواجدى نحو الشرق أوسط من خلال ثلاث محاور “السيطرة على الأراضي المحتلة والتهدئة مع مصروالسعودية والإمارات والتأمين التام لحدودها”. كما تعمل على تشجيع النزعات الإنفصالية القومية والدينية في المنطقة كما هو الحال في تشيع خطوة انفصال إقليم “كردستان” الشمالي في العراق 2017.
أما الحروب التي تخوضها إيران بالوكالة مع أميركا ودول عربية أدت إلى تقوية الراديكالية الأصولية في المنطقة.
رفيق خوري يقول في الانديبندنت: “في حرب العراق، تولّت دمشق وطهران إرسال “المجاهدين” الأصوليين لقتال المحتل الأميركي، حيث برز أبو مصعب الزرقاوي وتنامت شبكة “القاعدة” وأعلن أبو عمر البغدادي “دولة الخلافة” في العراق، ثم أعلن أبو بكر البغدادي دولة “داعش”، أي أن الجهاديين عادوا إلى قتال من أرسلهم. وفي حرب سوريا، عملت بلدان عدة على تجييش الراديكالية السنية وإرسال “المجاهدين” للحرب ضد النظام، كما عملت طهران على إرسال الميليشيات الراديكالية الشيعية للقتال إلى جانب النظام.”
“ما يحدث اليوم بعدما انتهت العمليات العسكرية الأساسية في حرب سوريا هو تكرار تجربة “الأفغان العرب” عبر “الإسلاميين السوريين”. عشرات الآلاف من المقاتلين المتشدّدين صاروا بلا عمل تقريباً. بينهم من هم في السجون، ومن عادوا أو يحاولون العودة إلى بلدانهم، ومن هم في بادية الشام يقومون بعمليات إرهابية تحت راية “داعش”، ومن هم مقاتلون مرتزقة للتصدير إلى ليبيا , فتركيا أرسلت عشرة آلاف مرتزق للقتال مع الميليشيات الأصولية وحكومة فايز السراج. ومنظمة “فاغنر” الروسية أرسلت ألف مرتزق للقتال مع الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، لكن الفارق أن “الأفغان العرب” ظلّوا يعملون في كل مكان ضمن مشروع “القاعدة” أو ضمن مشروع “داعش”. أما الإسلاميون السوريون فإنهم “بندقية للإيجار”. لا مشروع لهم.
إتساع الفجوة بين كلا من طهران وأنقرة ظهربعد التدخل الروسي والإيراني المباشر في الدفاع عن النظام السوري، في وقت الذي كانت فيه قوات المعارضة مدعومة من تركيا والسعودية وقطر، وفى ظل دعم وتغطية عسكرية تركية لـ”داعش”.
ارتأت تركيا فى “داعش” جماعة أصولية لها ثقلها فى أزمات المنطقة – بأمكانها التقارب والتفاهم معها، ويمكنها المساومة معها فى شأن الشمال السورى المكتظ بالأكراد الطرف المناؤى للنظام التركى، وبالتالى التدخل الروسي والإيراني المسنود من قوات حزب الله (اللبناني) أثر بشكل كبير للغاية في إحداث تحول نوعي في موازين القوى، وفرض معادلة حل سياسي للأزمة السورية في جنيف رأتها تركيا وحلفاءها العرب مُجحفة بحق المعارضة السورية.
في ظل تزايد التدخلات الأجنبية واشتداد حروب الوكالات بالمنطقة العربية، تزداد الحلول السياسية تعقيداً، خاصة فيما يتعلق بـ ” التوزيع العادل للثروة، والوقف لإطلاق النار في مناطق النزاع الإقليمي،وغيرها.
تبحث الإمارات عن انتصار إقليمي ضد اعدائها في المنطقة, كلا من إيران وتركيا, بعد ان صار التحالف السعودي الإماراتي في مأزق اليمن الذي لم يستطع , بعد سنوات من الصراع ,إنهاء حكم “الحوثيين” المواليين لإيران أو الحسم لصالح الجبهة الشرقية التي تدعمها الإمارات في ليبيا، لكن وسط ذلك يبقى التطبيع الإمارتي هو هدية الإمارات للرئيس الأمريكي في الانتخابات القائمة في محاولة منها لاستمرار سياسات ترامب في مقابل الديمقراطيين الذين قد يختارون مسارا شكليا مختلفا، على مستوى السياسات في المنطقة.