ساويرس ليس الأول ولا الأخير| يزعجهم حيًا وميتًا.. لماذا يكرهون جمال عبدالناصر؟
كتب – أحمد سلامة
رغم وفاته منذ نحو 50 عامًا إلا أن سيرته مازالت حاضرة، وبقوة، يثور عليه الخلاف كل حين، يهاجمه البعض ويحملونه سوءات البشرية كلها، ويدافع عنه آخرون ويرونه نصير الفقراء.. لكن المؤكد -رغم اختلاف التيارين بين مؤيد له ومعارض- أن تأثيره تجاوز الزمن.
إنه جمال عبدالناصر، قائد حركة الضباط الأحرار ومؤسس الجمهورية -الحقيقي- الذي انتهت على يديه عصور الملكية وعادت مصر إلى حُكم المصريين بعد أن غابوا عن قيادتها نحو ألفي عام.
تثور الخلافات حول عبدالناصر مع أقل ذكرى تاريخية قد ترتبط بعصره، بعض هذه الخلافات يُهيل فوق رأسه تراب الواقع الذي نعيشه، وبعضها يُحمله أزمات لم يكن سببًا فيها كانفصال السودان مثلا أو احتلال إسرائيل لـ”أم الرشراش” التي عُرفت بـ”إيلات”، فيما يرد البعض برفعه إلى مصاف الأنبياء وينزهه عن كل خطأ.
البعض ينتقده انتقادات مشروعة للغاية خاصة فيما يتعلق بملف الديمقراطية، في حين أن البعض يرى فيه نموذجًا يُحتذى خاصة فيما يتعلق بعدم تطبيق الديمقراطية!
لكن البعض يهاجمه “أيدولوجيًا”، لأنه من الواجب أن يهاجمه لكي لا تعود (توجهاته) إلى الظهور مرة أخرى على يد أشخاص آخرين.. وذلك هو النوع الأخطر.
ساويرس أسدٌ عليّ
“دمر مصر”، هكذا ألقى رجل الأعمال نجيب ساويرس باتهاماته على جمال عبدالناصر في تدوينة عبر صفحته على موقع التغريدات القصيرة “تويتر”.
ويضيف في تدوينة أخرى “لا أنا شايف إن فاشل كلمة مش كفاية.. ضيع البلد جاب عاليها واطيها دمر الرقعة الزراعية بتقسيمها، أفلس كل الشركات الناجحة بتأميمها ودخلنا حرب اليمن وبهدلنا و فضحنا قدام إسرائيل في ٦٧ بهزيمة منكرة وسجن كل من طالب بالحريات غير التعذيب في المعتقلات بحمزة البسيوني و صلاح نصر.. أكمل؟!”.
تدوينات ساويرس دفعت المحامي الحقوقي نجاد البرعي إلى الرد عليه مطالبًا رجل الأعمال بالتعبير عن رأيه في مسألة الحريات في ظل النظام الحالي.
وقال البرعي في تغريدة عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، وجهها لساويرس “مالكش دعوه بالحريات وقت عبد الناصر ده موضوع قديم؛ نسمع رأيك في الحريات حاليا لو جدع”.
الإزدواجية التي ألمح إليها البرعي لم تقتصر في تدوينة ساويرس على تناول “ملف الحريات”، فالتدوينة عجت بعدم الإنصاف والكيل بمكياليين، فقد تحدث رجل الأعمال عن خسارة الأرض أمام إسرائيل لكنه لم يتحدث عن التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير والتي حولت مضيق تيران إلى ممر مائي دولي يخدم مصالح إسرائيل بشكل مباشر.. واقعة التنازل التي خرج بعدها ساويرس بتصريحات قال فيها “عبدالفتاح السيسي قد تكون لديه معلومات لا نعرفها دفعت به بالتنازل عن ملكية مصر لجزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية”، حسبما نقلت عنه “سي إن إن”.
خسر عبدالناصر معركة 1967 بأخطاء سياسية وعسكرية كارثية، لكنه خسرها في إطار عام من مقاومة الصهيونية، ورفض التطبيع والاعتراف حتى بعد النكسة وعلى ذلك يشهد “مؤتمر الخرطوم”.. لكن ساويرس لم يرد مطلقا على الاتهامات التي تطاله بالتطبيع مع رجال أعمال صهاينة.
ناهيك عن ما وصفه البعض بتعمد التدليس من جانب رجل الأعمال، فالرقعة الزراعية على سبيل المثال زادت في عهد عبدالناصر بنسبة 15%، وزادت مساحة الأراضي المملوكة لفئة صغار الفلاحين من 2,1 مليون فدان إلى حوالي 4 مليون فدان.
أما الشركات التي “أفلسها” عبدالناصر بتأميمها وفق ما قال ساويرس، فقد كان من الإنصاف أن يحدثنا رجل الأعمال عن نظام الإقطاع الذي أتاح لأثرياء العصر الملكي تأسيس شركاتهم وتحويلها إلى إمبراطوريات على حساب الطبقات الفقيرة، أما عن الاقتصاد بشكل عام فإن ذلك يستلزم العودة إلى تقارير البنك الدولي التي قدرت القطاع العام الذي أنشأه ناصر بـ 1400 مليار دولار عام 1970.
ولنبتعد قليلا عن تفاصيل تدوينة ساويرس، ونسأل لماذا يهاجم ساويرس عبدالناصر المتوفي عام 1970؟!
إن ساويرس ليس وحيدًا في هذا التوجه، هو فقط يمثل رجال الأعمال، فكلهم يوجهون ذات الاتهامات المجتزئة والمقتطعة من سياقها لناصر.. ولا شك أن تدوينة ساويرس ألمحت إلى ذلك، فمسألة إنهاء احتكار طبقة بعينها وإلغاء تزاوج السلطة ورأس المال هي قضية تقض مضجع أي رجل أصبح لأسرته “مدينة خاصة” تطل على البحر الأحمر.
القضايا الشائكة التي خاض فيها عبدالناصر من أجل وضع قواعد صارمة تسري على رجال الأعمال من ضوابط ضريبية وحقوق للعمالة وإلغاء للاحتكار كلها مسائل يخشى أي رجل أعمال عودتها مرة أخرى إلى السطح.. لذلك سيظل هجوم رجال الأعمال على عبدالناصر مستمرًا فهو مسألة أيدولوجية وحرب مقدسة لا يمكن التهاون فيها.
حتى يكون الإخوان هم الحل
“لأول مرة في التاريخ أتفق مع نجيب ساويرس”، بهذا علّق الإعلامي محمد ناصر مقدم برنامج “مصر النهاردة” على قناة “مكملين” المحسوبة على جماعة الإخوان.
اتفق محمد ناصر مع نجيب ساويرس في أن جمال عبدالناصر “خرب البلد وجاب عاليها واطيها”، وأوشك أن يتفق معه في أنه سبب النكسات التي ستحل بمصر إلى يوم تقوم الساعة.
ليس غريبا أن يتفق “إعلام الإخوان” مع ما ذهب إليه نجيب ساويرس، ولا تقتصر الأسباب هنا على العداء التاريخي، بين جمال والإخوان، ولا لكون عبدالناصر هو أول مسئول مصري يعادي الإخوان (كتنظيم)، فالأمر يتخطى ذلك ويتعلق بالمستقبل الأيدولوجي للجماعة، فتحقيق الجوانب “الاجتماعية/الاقتصادية” من المشروع الناصري الاشتراكي يهدم بالضرورة مسببات وجود المشروع الإخواني.
يعتمد الإخوان في دعايتهم على شعار “الإسلام هو الحل”، وهو استغلال سياسي غرضه إيصال رسالة رئيسية مضمونها “نحن الحل”، “نحن من نستطيع إنقاذكم من البؤس، نحن من نستطيع تحقيق العدالة الاجتماعية، نحن من نستطيع لأننا من يحمل لواء الإسلام”.
إن تحقق العدالة الاجتماعية/الاقتصادية بعيدًا عن “المشروع الإخواني” يحرم الجماعة من كثير من أنصارها، أولئك الأنصار الذين تم إيهامهم بأن النصر لن يتحقق إلا على يد مكتب الإرشاد، وبالتالي فإن عودة الأفكار الناصرية لا يجب أن يكون لها سبيل لأنها تحمل الكثير من الأهداف لكن بعيدا عن الاستغلال السياسي للإسلام، ذلك الاستغلال السياسي الذي يُعد المحرك الرئيس لشعبية الجماعة.
في الوقت الحالي، تتخذ جماعة الإخوان وأنصارها من “قضايا الديمقراطية” قاعدة أساسية لانطلاقها في الهجوم على عبدالناصر، لكنهم لم ينتقدوا مطلقا في أي يوم من تاريخ جماعتهم الممتد المظاهرات التي خرج فيها الإخوان رفضًا للديمقراطية عقب حركة الضباط الأحرار في 1954.
ولم يتطرق أي منهم إلى مشكلات الديمقراطية في البنية الفكرية للجماعة بشكل عام والتي يجسدها المنظر الأول في تاريخ الجماعة سيد قطب.
يقول الباحث والمفكر التونسي صلاح الدين الجورشي، اعتبر سيد قطب أنّ ربط الإسلام بالديمقراطية محاولة من تلك “المحاولات الذليلة التي لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة، التي لا تثبت على حال باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله!”. وعلل ذلك بقوله إنّ الديمقراطية “نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر، يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضاً”.
ويضيف الجورشي “لم يقف عند ذلك، بل تقدم خطوة أخرى نحو التأويل الخطأ عندما نقل الجدل حول هذه المسألة من المجال السياسي العملي إلى المجال العقائدي الصارم الذي يجعل قراءه أمام علاقتهم بخالق الكون حين كتب “إنّ الله غني عن العالمين، ومن لم يستجب لدينه عبودية له، وانسلاخاً من العبودية لسواه، فلا حاجة لهذا الدين به”.
ازدواجية رجال الأعمال في النظر إلى عبدالناصر تتكرر مع الإخوان لكن من منطلق آخر، فإذا كان رجال الأعمال يهاجمون عبدالناصر دفاعا عن مشروعهم الاقتصادي، فإن الجماعة تهاجمه دفاعا عن مشروعها السياسي.
عبدالناصر كان محظوظا بإعلامه!
في سياق انتقاداته المتكررة للإعلام، وخلال كلمته في احتفالية إعلان تدشين محور تنمية قناة السويس، وإعلان التحالف الفائز بوضع المخطط العام للمشروع، قال عبدالفتاح السيسي رئيس الجمهورية “الزعيم الراحل جمال عبدالناصر كان محظوظ، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه”.
ربما كانت تلك هي “الإشادة” الوحيدة التي خرجت في حق عبدالناصر خلال الآونة الأخيرة، وهي الإشادة التي كانت محل اندهاش كثيرين، ففي الوقت الذي يرى فيه كثير من الخبراء أن سبب أزمات سياسات عبدالناصر مرده إلى غياب تعددية الإعلام وسحق الديمقراطية، إلا أن البعض يُصر على نقل إعجابه الشديد بفرض الصوت الواحد في الخمسينات والستينات، تلك الحقبة التي كان لها ظروفها الخاصة.
حينها وجه السيسي حديثه للمصريين قائلا «والله لن نسمح لحد يهد مصر وإحنا موجودين». وأضاف: «ماتخفوش يا مصريين، بس خليكم على قلب رجل واحد».
البعض ربط بين تلك التصريحات وبين الرغبة في القضاء على التعددية الإعلامية والحزبية، وهو ما ظهر في تصريحات سابقة لـ فاطمة سراج، مديرة وحدة المساعدة القانونية بمؤسسة حرية الفكر والتعبير، قالت فيها إن حجب الموقع يأتي ضمن سلسلة طويلة من التضييق على المواقع الصحفية المستقلة والتي تتخذ خطًا معارضًا لسياسات الحكومة، إذ تم حجب ما لا يقل عن 125 موقعًا صحفيًا منذ منتصف العام 2017 وإلى الآن.
البعض الآخر أشار إلى اختلاف سياسيات النظام الحالي الكاملة عن سياسات عبدالناصر التي كانت تضمن إلى حد كبير اصطفاف الإعلام خلفه، ففي حين انتمى نظام عبدالناصر إلى المواطن فضمن بذلك تحييده بل وانتمائه، توالت الأنظمة المتعاقبة منذ عهد السادات على تخفيف قاعدة الطبقة الوسطى بل وانحازت إلى المستثمرين ورجال الأعمال.
مؤخرًا وفي ظل أزمة تفشي فيروس كورونا، على سبيل المثال لا الحصر، قررت الحكومة زيادة أسعار الكهرباء، وهو ما دفع حزب التحالف الشعبي الاشتراكي إلى الإعراب عن رفضه لقرار الحكومة واصفًا إياه بـ”الظالم”.. داعيًا إلى حوار مجتمعي سريع من أجل حزمة من القرارات والإجراءات لمساندة القطاعات الاجتماعية التي ضربتها أزمة كورونا وتداعياتها.
لكن الحزب أشار إلى أن “الغريب أن تواصل الحكومة هذه السياسة في الالتزام بروشتة صندوق النقد الدولي في إلغاء الدعم رغم علمها بأن ملايين المصريين فقدوا وظائفهم أو انخفضت أجورهم جراء الأزمة وهبطت فئات جديدة تحت خط الفقر، ورغم علمها أيضا بانخفاض التكلفة كنتيجة لانخفاض أسعار النفط إلى قرابة النصف واكتشافات الغاز وفائض الكهرباء”.
وتابع “كل هذه المتغيرات كانت توجب تخفيض الأسعار وليس العكس، لكن الحكومة واصلت نهجها باستمرار الانحياز في توزيع الأعباء والموارد لصالح المستثمرين والتجار وتحميل الفقراء والطبقة الوسطى كل الأعباء، فخطوة رفع أسعار الكهرباء أعقبت الخصم الإجباري من الأجور والمعاشات بينما ثروات رأسمالية المحاسيب والتجار مصونة لم تمس، بل تزدهر مصالحهم وثرواتهم رغم الوباء بسبب التجارة في القطاع الصحي وغيره من القطاعات”.
الانحياز إلى الطبقات الأدنى هو العنصر الرئيس الذي ميز عصر عبدالناصر فاستطاع من خلالهم فرض سيطرته على الإعلام، وهو ما لم يفعله النظام الحالي الذي حمّل الفقراء والطبقة الوسطى كل الأعباء حسب توصيف حزب التحالف.
في ذات ازدواجية رجال الأعمال والإخوان سقطت الأنظمة منذ سبعينات القرن الماضي، فقد تخلوا عن أسس الحُكم التي ضمنت شعبية عبدالناصر، من بيع للقطاع العام إلى رفع الأسعار والاستجابة لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين إلى الانحياز الكامل لسيطرة رأس المال، إلى تراجع حقوق العمال.
وبينما حرصت الأنظمة على هدم التجربة الناصرية أبقت في الوقت ذاته على السلبيات، أو الرغبة في استمرار السلبيات التي من بينها التضييق على الأحزاب والحريات.
لم يكن عبدالناصر ملاكًا، كان تجربة و(مشروع استقلالي) بكل ما يحتويه من سلبيات وإيجابيات، لكن الانتقادات التي توجه إليه بعد خمسين عامًا من وفاته مازالت فيها رغبة أيدولوجية في تحريك المستقبل، ليست الحرب عليه حربًا على آثار الماضي من أجل تحسين الأوضاع، وإنما هي رغبة -من بعض الأطراف- في استغلال الهجوم عليه لتحقيق مكاسب مستقبلية.