من “رماح المرتزقة” إلى “لوحة المفاتيح”: كيف خدرتنا الرأسمالية بكلمة “فريلانسر”؟
كتب – أحمد حامد
هل العمل الحر يمنحك الحرية الموعودة، أم يضعك في قفص ذهبي من القلق الدائم؟
الأصل الدموي للمصطلح (من السيف إلى اللابتوب)

غلاف كتاب ايفانهو
قبل أن تصبح “الفريلانسر” صفة للمصمم والمبرمج، كانت صفة للمحاربين.
ظهر المصطلح لأول مرة تاريخياً في رواية السير والتر سكوت الشهيرة إيفانهو (1819). وصف فيها المحاربين المرتزقة بـ “Free Lances” (الرماح الحرة). المعنى الحرفي: كان “الرمح الحر” محارباً محترفاً في العصور الوسطى، لا يدين بالولاء لملك أو إقطاعي، بل يعرض “رمحه” (مهارته القتالية) لمن يدفع له أكثر.
المفارقة التاريخية: تماماً كما كان المرتزق قديماً يعيش بلا أمان، يموت في معارك لا تخصه، ولا يحصل على معاش تقاعدي إذا أُصيب؛ يعيش “الفري لانسر” اليوم في نفس الدائرة: يقاتل في مشاريع شركات كبرى، وتنتهي علاقته بها بمجرد تسليم “المهمة”.
هل نحن “أحرار” أم “مضطرون”؟
تدعي الرأسمالية أن العمل الحر هو “خيار نمط حياة”، لكن الأرقام تقول إن الاقتصاد المتوحش هو من دفعنا إليه:
يشير تقرير موقع Statista للابحاث والدراسات إلى أن عدد الفري لانسر في الولايات المتحدة وحدها سيصل إلى 90 مليون شخص بحلول عام 2028، أي ما يقرب من نصف القوة العاملة. الشركات الكبرى توفر ما يصل إلى 30% من تكاليف العمالة عندما تعتمد على الفري لانسر بدلاً من الموظفين الدائمين (توفير في التأمين، الضرائب، والمكاتب).
في جوهرها، تستخدم الرأسمالية المعاصرة مصطلح “الفريلانسر” كآلية لإعادة صياغة فشلها في توفير وظائف مستقرة ومستدامة. بدلاً من أن تعترف الشركات بمسؤوليتها عن خلق بيئة عمل آمنة، تقدم العمل الحر كـ”خيار” فردي يتيح “التحكم” في الحياة المهنية. لكن الواقع يكشف عن عملية نقل منظمة للمخاطر والتكاليف من الشركات إلى الأفراد.

يوضح الرسم البياني أعلاه مقارنة بين العمل التقليدي والعمل الحر من حيث عدة جوانب محورية. نلاحظ أن العمل التقليدي يتسم باستقرار وظيفي وأمان اقتصادي وضمانات اجتماعية أعلى، في حين أن العمل الحر يتفوق في المرونة ويُظهر نقلًا أكبر للمخاطر وتكاليف أقل على الشركات. هذا التحليل يؤكد أن ما يُقدم كـ”حرية” في العمل الحر غالباً ما يأتي على حساب الأمان الوظيفي والضمانات الاجتماعية.
“البريكاريا”.. الطبقة الجديدة التي كونتها خدعة الفريلانسر

صورة لغلاف كتاب جاي ستانديج
صاغ الاقتصادي وعالم الاجتماع البريطاني جاي ستاندينج (Guy Standing) في كتابه: “البريكاريا: الطبقة الخطيرة الجديدة”. مصطلح “البريكاريا” (Precariat) في عام 2011 لوصف طبقة اجتماعية جديدة تنشأ وتتوسع في ظل العولمة ونمو اقتصاد المنصات. يجمع هذا المصطلح بين كلمتي “precarious” (محفوف بالمخاطر أو غير مستقر) و”proletariat” (الطبقة العاملة). إنها طبقة تعيش حالة دائمة من عدم الاستقرار والأمان الوظيفي، وتفتقر إلى الحقوق والضمانات التي كانت تتمتع بها الطبقات العاملة التقليدية.
سمات البريكاريا
انعدام الأمن الوظيفي: يعيش أفراد هذه الطبقة في خوف دائم من فقدان عملهم المؤقت أو عدم العثور على مشاريع جديدة. دخلهم متقلب وغير مضمون، مما يجعل التخطيط للمستقبل أمراً صعباً للغاية.
غياب الضمانات الاجتماعية: نادراً ما يحصلون على مزايا مثل التأمين الصحي، خطط التقاعد، أو الإجازات المدفوعة. هذا يعني أنهم يتحملون وحدهم عبء أي طوارئ صحية أو احتياجات الشيخوخة.
فقدان الهوية المهنية: غالباً ما يفتقرون إلى شعور قوي بالانتماء المهني أو النقابي. عملهم المشتت والمتنوع يجعل بناء مسار مهني واضح أو هوية وظيفية مستقرة أمراً صعباً.
التعرض للضغط النفسي: القلق المستمر بشأن الدخل، والبحث الدائم عن العمل، وغياب الشبكات الاجتماعية المهنية، كلها عوامل تزيد من الضغط النفسي وتؤثر سلباً على الرفاه العام.
فقدان السيطرة: على الرغم من وهم الحرية، يجد الكثيرون أنفسهم تحت رحمة تقلبات السوق ومتطلبات العملاء أو المنصات الرقمية، مما يحد من سيطرتهم الفعلية على ظروف عملهم.
يؤكد ستاندينج أن هذه الطبقة ليست مجرد “خيار” فردي، بل هي نتيجة لبنية اقتصادية واجتماعية أوسع تتجه نحو تفكيك الأمان الوظيفي وزيادة العمل المؤقت. ومع تزايد أعداد المنتمين إلى البريكاريا، تتفاقم التحديات الاجتماعية والسياسية، حيث قد يؤدي هذا الوضع إلى تزايد الاستياء ونقص الثقة في المؤسسات القائمة.
وفورات هائلة للشركات
تستفيد الشركات التي تعتمد على نموذج اقتصاد المنصات من وفورات مالية هائلة. هذه الوفورات تأتي على حساب غياب الضمانات التي كانت توفرها الوظائف التقليدية. لنلقِ نظرة على بعض الجوانب:

الفريلانسر كـ “مُسكن” للفشل البنيوي
بدلاً من أن تعترف الحكومات والرأسمالية بفشلها في خلق وظائف مستقرة تحمي كرامة الإنسان، قامت بـ “تسويق” العمل الحر كحل سحري:
- تحويل العاطل إلى “رائد أعمال”: إذا لم تجد وظيفة، فأنت لست ضحية نظام فاشل، بل أنت “رائد أعمال” لم يجد فرصته بعد! هذا يمتص الغضب الاجتماعي ويحوله إلى جلد للذات.
- إضفاء الرومانسية على المعاناة: تصوير العمل لـ 16 ساعة أمام الشاشة كأنه “شغف” و”كفاح ملهم”، بينما هو في الحقيقة استنزاف بشري بلا غطاء قانوني.
الفري لانس حرية حقيقية أم استعباد رقمي مغلف؟
الرأسمالية المتوحشة تستخدم مفهوم الفري لانس كـ”مسكن” لتبرير غياب الوظائف المستقرة، ونقل المخاطر الاقتصادية والتكاليف التشغيلية من الشركات إلى الأفراد. هذا يغذي نمو طبقة “البريكاريا”، التي تعيش في قلق دائم وتفتقر إلى الضمانات الاجتماعية، مما يؤثر سلباً على استقرارها المادي والنفسي. اقتصاد المنصات، بأرقامه المغرية للشركات، يوضح بجلاء كيف تُحقق الوفورات على حساب أمان العمال.
السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: هل العمل الحر يمثل حقاً حرية حقيقية، أم أنه شكل جديد من أشكال الاستعباد الرقمي المغلف بوعود المرونة والاستقلال؟
إن الوعي بهذه الخديعة هو الخطوة الأولى نحو المطالبة بسياسات عمالية تعيد التوازن، وتضمن حماية اجتماعية شاملة للمستقلين، وتضع حداً لاستغلال “الفري لانسر” في العصر الرقمي.

