حسن البربري يكتب: العمال والسياسة.. كيف جرى إقصاء القوة المنتجة عن المجال العام

العمال والسياسة

في مصر قصة إقصاء ممتدة، لا يمكن فهمها باعتبارها غيابًا عارضًا أو نتيجة عزوف فردي، بقدر ما هي حصيلة مسار طويل جرى فيه تفريغ القوة المنتجة لثروات المجتمع من أدوات التأثير في القرار العام. فعلى الرغم من أن العمال يتحملون العبء الأكبر من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فإنهم لا يشاركون في صياغتها ولا في مناقشتها، ولا حتى في اختيار من يقررونها باسمهم. ويعود أحد الأسباب الجوهرية لهذا الإقصاء إلى تفكيك التمثيل الاجتماعي داخل المجال السياسي. فمنذ إلغاء نظام العمال والفئات، فقدت العملية الانتخابية أحد آخر الجسور التي كانت تربط عالم العمل بالمؤسسات التشريعية. صحيح أن هذا النظام لم يكن مثاليًا، لكنه كان يضمن حضورًا طبقيًا واجتماعيًا داخل البرلمان. أما بعد إلغائه، فقد أُعيد تشكيل السياسة على أسس أكثر نخبوية وأقل ارتباطًا بمواقع الإنتاج، وهو ما انعكس في غياب العمال عن الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الشيوخ، سواء كمرشحين أو كقضية مركزية في البرامج الانتخابية. ولم يقتصر هذا التحول على الأشخاص، بل شمل مضمون السياسة نفسها؛ إذ باتت برامج المرشحين تخلو من حديث جاد عن الأجور أو شروط العمل أو الحماية الاجتماعية، وتحولت الانتخابات إلى منافسة حول شعارات عامة لا تمس حياة العامل اليومية. ومع مرور الوقت، ترسخ إدراك واسع لدى العمال بأن السياسة لا تعنيهم، وأن المشاركة الانتخابية لا تغير من أوضاعهم شيئًا، وهو إدراك لم ينشأ من فراغ، بل من تجربة متراكمة من الإقصاء.

إضعاف التنظيم النقابي

إلى جانب ذلك، لعب إضعاف التنظيم النقابي دورًا حاسمًا في إقصاء العمال عن صنع السياسات. فالسياسة لا تُمارس فقط عبر البرلمان، بل أيضًا عبر التفاوض الجماعي والضغط المنظم. وحين جرى تحجيم دور النقابات أو تفريغها من مضمونها التمثيلي، فقد العمال قدرتهم على تحويل مطالبهم إلى قوة سياسية فاعلة، وتحولوا إلى أفراد متفرقين يواجهون قرارات كبرى دون أدوات جماعية للدفاع عن مصالحهم. ويكتمل هذا المشهد مع ما يسمى بالحوار المجتمعي، الذي تشارك فيه الأطراف العمالية بصورة شكلية في كثير من الأحيان؛ فالحوار لا يبدأ من أسئلة العمال، ولا ينتهي عند مطالبهم، بل يُدار داخل إطار سياسات مرسومة سلفًا، وتكون نتائجه معروفة قبل انعقاده. ويقتصر دور ممثلي العمال فيه على الحضور الرمزي الذي يمنح القرار غطاءً إعلاميًا، دون أن يتيح لهم تأثيرًا حقيقيًا في مضمونه.

الخوف بوصفه محددًا سياسيًا

عامل آخر لا يقل أهمية يتمثل في الخوف بوصفه محددًا سياسيًا. فالعامل الذي يعاني من هشاشة الأجر وعدم استقرار العمل يدرك أن الاعتراض أو التعبير عن الرأي في السياسات العامة قد يهدد مصدر رزقه، في ظل ضعف شبكات الحماية وغياب الضمانات. وهكذا يصبح الصمت خيارًا عقلانيًا، وتتحول السياسة إلى مساحة مغلقة لا يرغب كثيرون في الاقتراب منها. كما ساهمت الطريقة التي تُصاغ بها السياسات الاقتصادية في تعميق هذا الإقصاء؛ إذ تصدر قرارات تمس الأجور والدعم والضرائب والتأمينات والعمل باعتبارها شأنًا فنيًا أو ضرورة اقتصادية لا تقبل النقاش، ويتم تقديمها للرأي العام كأمر واقع، لا كاختيار سياسي قابل للتفاوض. وهو ما ينزع عنها طابعها الاجتماعي، ويقصي من سيتحملون كلفتها عن المشاركة في اتخاذها. وليس غياب العمال عن مجلسي النواب والشيوخ، إذن، مجرد خلل تمثيلي، بل تعبير عن نموذج أوسع لصنع القرار يقوم على الفصل بين الإنتاج والسياسة، وبين من يعملون ومن يقررون. فالمجالس التي تناقش قوانين العمل والأجور والحماية الاجتماعية لا تضم في تركيبها الاجتماعي من يعايشون هذه القضايا يوميًا، وهو ما يفسر الفجوة المستمرة بين النصوص القانونية والواقع الفعلي في مواقع العمل.

آثار الإقصاء على المجتمع والاقتصاد

ولا يتوقف أثر إقصاء العمال عن السياسة وصنع القرار عند حدود التمثيل أو الشكل الديمقراطي، بل يمتد ليصيب بنية المجتمع والاقتصاد في عمقها. فحين تغيب القوة المنتجة عن المشاركة في رسم السياسات، تتحول القرارات إلى أعباء يتحملها العمال دون أن يشعروا بأنها تعبر عنهم أو تراعي مصالحهم، وهو ما يخلق حالة مستمرة من عدم الرضا تتراكم بمرور الوقت. وينعكس هذا الإقصاء مباشرة على الاقتصاد نفسه؛ فالسياسات التي تُصاغ بعيدًا عن واقع العمل غالبًا ما تتجاهل أثرها الاجتماعي، فتضغط على الأجور، وتضعف الحماية، وتزيد هشاشة سوق العمل، وهو ما يؤدي إلى تراجع القوة الشرائية، واتساع الفجوة بين الدخول، وارتفاع معدلات الفقر والعمل غير المستقر. وفي النهاية، يتأثر الطلب الداخلي والاستقرار الاقتصادي ذاته، إذ لا يستطيع اقتصاد يقوم على إنهاك عماله أن يحقق تنمية مستدامة، مهما تحسنت مؤشراته الورقية.

الاغتراب والاحتجاج

على المستوى الاجتماعي، يخلق هذا الوضع شعورًا واسعًا بالاغتراب. فالعمال لا يشعرون بأنهم جزء من المجال العام، ولا بأن الدولة تمثلهم، بقدر ما يشعرون أنهم مجرد طرف مطالب بالتحمل والصبر في مواجهة سياسات لم يشاركوا في صياغتها ولا في مناقشة بدائلها. ويتحول الإحساس بالظلم من حالة فردية إلى وعي جمعي صامت، يتغذى على التجربة اليومية في مواقع العمل. ومع غياب القنوات السياسية والنقابية الفاعلة للتعبير عن هذا الغضب، لا يبقى أمام العمال سوى اللجوء إلى أشكال احتجاجية مباشرة. ومن ثم، لا يمكن فصل تصاعد الاحتجاجات والإضرابات العمالية عن هذا السياق؛ فهي ليست مجرد مطالب فئوية معزولة، بل تعبير عن انسداد سياسي واجتماعي يجد فيه العامل نفسه خارج كل مسارات التأثير المؤسسي.

الإضراب كخيار أخير

الإضراب هنا لا يكون اختيارًا أوليًا، بل وسيلة أخيرة. فحين يغيب الحوار الحقيقي، وتُغلق أبواب التفاوض، وتتحول النقابات إلى أطر محدودة التأثير، يصبح الاحتجاج هو اللغة الوحيدة المتاحة لإيصال الصوت. وهو ما يفسر انتشار هذه التحركات في قطاعات مختلفة، وتزايدها مع كل موجة سياسات تضغط على الأجور أو تهدد الاستقرار الوظيفي.

كلفة الإقصاء ومآلاته

هذا المسار يحمل كلفة عالية على الجميع. فالعمال يدفعون ثمن الاحتجاج من أمنهم الوظيفي ودخولهم، والدولة تواجه توترًا اجتماعيًا مزمنًا، وأصحاب الأعمال يواجهون عدم استقرار في بيئة الإنتاج، والمجتمع ككل يدخل في دائرة من الصراع الصامت بين من يقررون ومن يتحملون النتائج. والأخطر أن استمرار هذا الوضع يقوض الثقة في السياسة نفسها؛ فحين يرى العمال أن الانتخابات لا تعبر عنهم، وأن الحوار المجتمعي شكلي، وأن السياسات تُصاغ بمعزل عنهم، تتآكل فكرة المشاركة من أساسها، ويتحول العزوف إلى موقف عام لا يهدد فقط العدالة الاجتماعية، بل يهدد الاستقرار على المدى الطويل.

خاتمة

إقصاء العمال عن السياسة وصنع القرار لا ينتج مجتمعًا مستقرًا، بل مجتمعًا متوترًا يُدار بالأزمات لا بالتوافقات. فالديمقراطية الاجتماعية ليست ترفًا ولا مطلبًا مثاليًا، بل شرطًا ضروريًا لاستقرار الاقتصاد والمجتمع. وإعادة إدماج العمال في المجال العام ليست استجابة لمطالب فئة بعينها، بل استثمار في توازن المجتمع كله. كما أن إعادة إدماج العمال في السياسة في مصر لا تتعلق بإجراءات شكلية أو دعوات عامة للمشاركة، بل بإعادة بناء قنوات التمثيل والتنظيم والحوار الحقيقي، بدءًا من انتخابات تعكس مصالح اجتماعية فعلية، مرورًا بنقابات قادرة على التفاوض، وصولًا إلى سياسات تعترف بأن من ينتجون ثروة المجتمع يجب أن يكونوا شركاء في تقرير مصيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *