حسن البربري يكتب: وزارة العمل تتخلي عن حل المنازعات الجماعية وتكتفي بالتفتيش والحل الأمني


من يتابع المشهد العمالي في مصر خلال الشهور الاخيرة يدرك ان ما يحدث ليس مجرد موجة عابرة من الغضب بل تحول عميق في الطريقة التي اصبح بها العمال يعبرون عن انفسهم بعدما ضاقوا بكل المسارات الرسمية التي كان يفترض ان توفر لهم الطريق القانوني لانتزاع حقوقهم خصوصا بعد ان صار الحد الأدنى للأجور هو الشرارة التي كشفت اتساع الفجوة بين ما تعلنه الدولة وما يجري فعلا داخل المصانع والشركات والهيئات ,ففي الوقت الذي كانت الحكومة تتحدث فيه عن رفع الحد الأدنى كانت قطاعات كاملة تكتشف انها خارج هذا القرار تماما او انه يطبق عليها بطريقة شكلية تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي استمرار الأجر كما هو وكأن القرار لم يصدر.
وهكذا بدأت الاحتجاجات في شركات المياه ثم امتدت إلى شركات الكهرباء ثم تبعتها شركات البترول اذ خرج العمال يطالبون بأبسط ما يمكن ان يطالب به عامل في دولة الجمهورية الجديدة وهو أجر يكفي الحد الأدنى من العيش وقانون يمكن الرجوع اليه حين يختلفون مع صاحب العمل لكن هذه القانون نفسه كان غائب ووزارة العمل التي كان يفترض ان تكون وسيطا فعليا ظهرت وكانها بعيدة تماما عن ساحة الأزمة ,وحده فقط العامل كان في قلب المشهد يحاول ان يرفع صوته بينما الطريق الذي حدده القانون لم يُفتح امامه.
وزاد المشهد قسوة حين اعتصم صحفيو جريدة البوابة داخل مؤسستهم لأيام طويلة من اجل حق لا جدال فيه وهو تطبيق الحد الأدنى للاجور في مؤسسة اعلامية يفترض ان تخضع لكل القواعد القانونية مثل باقي المؤسسات ومع ذلك ظل الاعتصام ممتدا دون تدخل حقيقي من الوزارة ودون ان تحرك اليات الفصل الرابع من قانون العمل الجديد الذي وضع منطقا كاملا للتعامل مع المنازعات الجماعية يقوم على التدرج والتدخل المبكر والتفاوض ثم الوساطة ثم التحكيم لكن هذا الباب ظل معلقا في الهواء بينما العمال والصحفيون يعيشون لحظة النزاع في اقسى صورها.
فمع كل اضراب جديد كان السؤال يعيد نفسه اين دور وزارة التي وضع لها القانون وظيفة واضحة تبدأ من لحظة الاخطار بوجود نزاع جماعي حيث يجب على الجهة الادارية ان تتحرك فورا وتبدأ جلسات التوفيق بين الطرفين بطريقة عاجلة وملزمة لكن هذا لم يحدث. حيث كل ما جرى كان مجرد زيارات تفتيش شكلية بعد حدوث الاضراب وليس قبله وبدلا من ان تكون الوزارة جزءا من الحل صارت مجرد شاهد صامت يكتفي بتحرير محاضر ثم يغادر تاركا العمال وحدهم في مواجهة اصحاب المنشآت وهكذا تحول النص القانوني الذي وضع من اجل  تقليل النزاعات الى فراغ كبير يؤدي الى تفاقمها والتفتيشات التي كان يفترض ان تكون اداة للردع والالتزام لم تكن اكثر من اجراء روتيني لا ينتج أثرا ملموسا اذ لا تضمن للعمال حقهم في الحد الأدنى ولا تفرض على اصحاب الشركات سداد الاجور المتأخرة ولا تعالج جذور النزاع الجماعي بل ان بعض المنشآت كانت تستقبل مفتشي الوزارة والازمة كما هي دون تغيير واحد فيما كان وزير العمل نفسه يظهر في المشهد وكأنه يتعامل مع ملف بعيد عنه لا يملك فيه سلطة رغم ان القانون يعطيه الدور المركزي في ادارة النزاعات الجماعية منذ لحظتها الاولى.
ومع كل غياب للوزارة كان العمال يكتشفون ان القانون الذي كتب على الورق لا يجد طريقه الى ارض الواقع وان الطريق الوحيد الذي يملكونه هو الاحتجاج نفسه لذلك اتسعت الاضرابات ولم تعد حكرا على قطاع معين بل اصبحت خريطة كاملة تمتد من شركات المياه والكهرباء والبترول إلى المؤسسات الاعلامية لان المظلة التي كان يفترض ان تحمي الجميع غابت تماما ,ومع غياب التوفيق غابت الوساطة ومع غياب الوساطة غاب التحكيم ومع غياب التحكيم فقد القانون وظيفته الاساسية وصار الشارع هو المسار الوحيد الذي يصل فيه العمال الى صوت مسموع.
فالخطوة الاولى التي وضعها الفصل الرابع هي مرحلة التوفيق وهي مرحلة حيوية وليست مجرد اجراء شكلي لانها تحاول علاج النزاع قبل ان يتحول الى ازمة مفتوحة وفي هذه المرحلة يتلقى مكتب العمل اخطارا بنشوء نزاع جماعي فيسارع الى دعوة ممثلي العمال وادارة المنشأة لجلسة تفاوض مبكرة تناقش فيها المطالب وتعرض فيها الوزارة رؤيتها وتطلب من الادارة الكشف عن اوضاعها المالية وتقدم للعمال صورة واضحة عن حدود ما يمكن تنفيذه وما لا يمكن تنفيذه وتبحث عن صيغة ترضي العمال وتضمن استمرار العمل
لكن في الواقع لم تحدث هذه المرحلة ولو مرة واحدة في الازمات الاخيرة فقد كانت الوزارة تكتفي بتحريك لجنة التفتيش التي تنظر الى المنشأة بمنظور رقابي بحت وتسجل المخالفات المتعلقة بالاجور او التعاقدات ثم تعود الى مكتبها دون ان تدعو الطرفين للحوار وهذا السلوك افرغ النص القانوني من مضمونه وحول الخلافات الجماعية الى مجرد اوراق محفوظة في ملفات الوزارة بينما كانت حدة الازمة تتصاعد في الخارج يوما بعد يوم.
اما المرحلة الثانية في الباب الرابع فهي مرحلة الوساطة وهي مرحلة اكثر عمقا ومرونة لانها تقوم على فكرة ان طرفا محايدا يمكنه ان يرى ما لا يراه الطرفان المتصارعان فالوسيط يستمع الى شكاوى العمال دون ان يكون طرفا فيها ويستمع إلى مبررات صاحب العمل دون ان يكون خصما له ثم يضع تصورا جديدا قد يفتح بابا كان مغلقا او يبتكر حلا لم يكن مطروحا لكن هذه المرحلة ايضا لم تر النور لان الدولة لم تنتدب وسيطا واحدا في اي من النزاعات التي شهدتها البلاد في الشهور الاخيرة وكأن الوساطة رفاهية وليست ضرورة وهي في الحقيقة ضرورة لانها تنزع الاحتقان من جذوره وتحول الخلاف من صراع الى حوار.
ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة التحكيم وهي المرحلة التي يفترض ان تحسم النزاع عندما يفشل التوفيق وتتعثر الوساطة وفي هذه المرحلة يتشكل مجلس تحكيم يصدر قرارا نهائيا ملزما للطرفين يحسم الخلاف بطريقة قانونية واضحة تمنع استمرار النزاع وتحمي المنشأة من التوقف وتحمي العمال من الضياع لكن التحكيم لم يستخدم ايضا نتيجة غياب المرحلتين الاولى والثانية ونتيجة تصور خاطئ ان التحكيم خطوة بعيدة لا يلزم اللجوء اليها الا في النزاعات الكبرى بينما الحقيقة ان التحكيم هو صمام الامان الذي يلجأ اليه القانون عندما يتعثر الطريق وهو الية اساسية وليست تكميلية.
و بديلا مما سبق نجد التعامل الأمني هو التعامل الوحيد الذي انتهجته الدولة حيث تم القبض علي عمال شركة الكهرباء و تم الافراج عنهم مقابل انهاء احتجاجهم و العودة للعمل و الا سوف يعاود القبض عليهم مرة الأخرى و الاسوء انها اخلت سبيلهم بكفالة تتخطي اجورهم الهزيلة وهم من احوج الي زيادته الي خط الحد الادني للأجور .
إن ما يجري الآن هو اشارة واضحة إلى ان حقوق العمال لا تحميها القرارات اذا لم تحمها الدولة وان القانون مهما كان دقيقا يظل بلا معنى اذا لم تجد الياته طريقها الى التنفيذ والاضرابات التي نراها ليست سوى شهادة على غياب هذا الطريق وعلى ضرورة اعادة بناء دور الوزارة بما يليق بثقل اللحظة وبمصالح ملايين العمال الذين لم يعودوا يحتملون الانتظار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *