د. باسم سامي بسكالس يكتب: معاناة الإنسان بين البعد الإلهي والبعد المجتمعي

منذ أقدم العصور، حاول الإنسان أن يفسّر سبب المعاناة المرتبطة بوجوده: لماذا يعمل؟ لماذا يتعب؟ لماذا يعيش تحت ضغط الضرورة؟ من بين الإجابات المبكرة التي قدّمتها الأساطير القديمة، تبرز ملحمة أترا-هاسيس الرافدية التي تروي أن الآلهة احتفظت لنفسها بالراحة، وخلقت الإنسان ليحمل عنهم أعباء العمل. ورغم طابعها الأسطوري، تقدم هذه الرؤية نموذجًا رمزيًا قابلاً لإعادة القراءة في ضوء الفلسفة المعاصرة.
فالمعاناة التي تُسند إلى الإنسان لا تُفهم فقط من خلال علاقته بما هو إلهي أو متعالٍ، بل أيضًا من خلال علاقته بالبُنى العليا داخل المجتمع والتي تفرض عليه أدوارًا وواجبات قد لا يختارها بحرّيته.
هكذا يمكن بناء تصور ثنائي يُفسِّر معاناة الإنسان عبر مستويين:

  1. مستوى علوي ميتافيزيقي: علاقة الإنسان بالإله وما تمنحه من معنى روحي وأخلاقي للمعاناة.
  2. مستوى اجتماعي دنيوي: علاقة الإنسان بالبنى العليا التي تستفيد من جهده وتحمّله عبء استمرار المجتمع.
    ومن هذا التداخل بين العلوي والدنيوي، يتكوّن الفهم الفلسفي الشامل لمعنى المعاناة في الوجود الإنساني.

أولًا: المعاناة في ضوء علاقة الإنسان بالإله
تتحوّل فكرة “منح الراحة للآلهة وترك المشقة للإنسان” إلى معنى فلسفي يُظهر حدود الإنسان أمام المطلق. فالمعاناة هنا ليست مجرّد عقوبة، بل علامة على وضع الإنسان داخل الكون. يمكن تحليل هذا البعد عبر ثلاثة مستويات:

  1. المعاناة كتذكير بحدود الإنسان
    إذ تبدو المعاناة علامة على هشاشة الإنسان وضعفه أمام قوة تتجاوزه. هذا الضعف لا يُلغى، بل يوجّه الإنسان نحو السؤال عن معنى وجوده. وهكذا تصبح المعاناة جسرًا يربط الإنسان بالمطلق؛ فهي تذكّره بأنه ليس كائنًا مكتفيًا بذاته.
  2. المعاناة كاختبار للحرية الأخلاقية
    لا تتحقق قيمة الإنسان الأخلاقية إلا عندما يواجه الألم ويختار رغم ذلك موقفًا حرًا. في هذا المنظور، يصبح الألم شرطًا لتأسيس الأخلاق، لأن الإرادة تُختبَر حين تتصادم مع الضرورة. هنا نجد echo للفكرة الدينية بأن الإنسان “مُبتلى ليختبر”، لكن بصياغة فلسفية وجودية:
    ● لا قيمة لحرية لا تُمارَس تحت وطأة الألم.
  3. المعاناة كالطريق إلى الوعي
    منذ بوذا إلى كيركغارد، تُعتبر المعاناة الشرط الذي يُيقِظ وعي الإنسان. فهي تحرّره من السطحية، وتجعله يُعيد التفكير في ذاته وفي العالم. وهكذا، فإن العلاقة بالإله—أو بما هو أسمى—تُعطي الألم وظيفة معرفية وروحية:
    ● المعاناة ليست عبئًا فقط، بل إمكانية للسموّ.
    ثانيًا: المعاناة في ضوء علاقة الإنسان بالبنى العليا المجتمعية
    إذا كانت الأسطورة تُحمّل الإنسان أعباء العمل لحساب الآلهة، فإن المجتمع الحديث يوزع الأعباء بطريقة لا تقل رمزية. فالإنسان اليوم لا يخضع لآلهة السماء، بل لـ آلهة الأرض: الاقتصاد، السلطة، التكنولوجيا، الأعراف.
  4. البنى العليا كقوى تتجاوز الفرد
    رغم أن هذه البنى من صناعة البشر، فإنها تعود فتتحول إلى منظومات مستقلة تفرض شروطها عليه.

فالنظام الاقتصادي يحدد قيمة الإنسان بقدر إنتاجه. والمؤسسات السياسية تضبط حرياته ومسؤولياته. وأجهزة الإعلام تُعيد تشكيل وعيه ورغباته. والتكنولوجيا تفرض إيقاعًا سريعًا للعيش والعمل.
وهكذا، يجد الإنسان نفسه محاصرًا ضمن شبكة من القوى التي تحتاج جهده كي تستمر، كما احتاجت الآلهة الرافدية الإنسان لحمل أعبائها.

  1. المعاناة كمنتوج اجتماعي ضروري
    لم تعد المعاناة مجرد قدر طبيعي، بل أصبحت وظيفة اجتماعية، لأن النظام الاقتصادي والسياسي يعتمد على وجود طبقات عاملة، وأدوار مرهقة، وحياة قائمة على التنافس المستمر.
    إن الضغط، والإجهاد، والقلق، والاستلاب ليست اختلالات، بل نتائج منتظرة من نمط المجتمع الحديث.
  2. المفارقة: الإنسان خالق البنى وخاضع لها
    تتمثّل المفارقة الكبرى في أن البنى التي تستنزف الإنسان اليوم هي من صنعه: الدولة، الشركات، النظام المالي، التكنولوجيا… كلها نتاج إنساني، لكنها تعود لتفرض نفسها عليه كقوى حتمية لا يستطيع الانفكاك منها. وهكذا، تتكرر صورة الأسطورة بشكل جديد:
    ثالثًا: وحدة التصورَين—المعاناة كشرط مزدوج للوجود الإنساني
    من خلال الجمع بين البعدين، الديني والاجتماعي، يتضح أن معاناة الإنسان ليست مجرد إكراه خارجي، ولا مجرد تجربة داخلية، بل هي نقطة التقاء بين ما يتجاوزه وما يصنعه هو بنفسه.
    من جهة، تمنحه المعاناة معنى روحيًا وتكوينًا أخلاقيًا يجعله يدرك ذاته باعتبارها كائنًا محدودًا يسعى للتسامي. ومن جهة أخرى، تَظهر بوصفها نتيجة لوجوده في مجتمع تُنتج بنيته العليا أشكالًا جديدة من الضغط والعمل والإكراه.
    وهكذا، فإن معاناة الإنسان ليست حادثًا عابرًا، بل بنية مزدوجة تُشكّل هويته:
    إنه كائن يختبر القيد ليولد منه الحرية، ويحمل العبء ليصنع منه معنى.

إذا كانت الأسطورة القديمة قد فسّرت تعب الإنسان بكونه الثمن الذي يدفعه مقابل راحة الآلهة، فإن الفلسفة المعاصرة تكشف أن هذا الثمن ما يزال يُدفَع، وإن تبدّلت ملامح الآلهة. فالإنسان يعيش بين مستويين من الضرورة: ضرورة وجوده المحدود الذي يجعله يبحث عن معنى عبر الألم، وضرورة واقعه الاجتماعي الذي يفرض عليه أدوارًا وأعباء تضمن استمرار النظام.
ومع ذلك، يبقى في المعاناة ما يسمح للإنسان بتحويل الضرورة إلى حرية، والضغط إلى وعي، والعمل إلى معنى.
فالمعاناة ليست قدرًا ميّتًا، بل مادة تُشكّل الإنسان وتمنحه القدرة على إعادة خلق ذاته والعالم حوله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *