حسن البربري يكتب: مصر وليبيا في ذيل مؤشر الشفافية …قراءة في تقرير الشفافية الدولية
يستند هذا المقال إلى تقرير أصدرته منظمة الشفافية الدولية يرصد مستوى شفافية الملكية الفعلية في ثماني دول من الشرق الأوسط وشمال افريقيا (مصر وليبيا والأردن و فلسطين ولبنان و الجزائر و المغرب و تونس ) ويكشف كيف تتعامل كل دولة مع ملف الملاك الحقيقيين للشركات الذين يوجهون القرار ويسيطرون على العقود ويحركون الأموال من وراء الهياكل (الشركات ) القانونية التي تخفيهم عن الأنظار ويقدم التقرير صورة دقيقة عن قدرة كل دولة على جمع المعلومات المتعلقة بالملكية الفعلية وتحديثها وإتاحتها للجهات المختصة كما يكشف الفجوات التي تسمح باستمرار الشركات الواجهة التي تستخدم لإخفاء تضارب المصالح وتوجيه المال العام بعيدا عن الرقابة ويظهر أن المنطقة تشهد حراكا متفاوتا بين دول تتحرك بثبات نحو الإصلاح ودول أخرى منتهجة سياسات الغموض
ويقارن التقرير وضع مصر و الذي اتضح حجم الفجوة بينها و بين دول المنطقة فبينما حققت دول مثل المغرب وتونس والجزائر تقدما ملحوظا في إنشاء سجلات واضحة للملكية الفعلية وتحديد الجهات المختصة بالوصول إلى البيانات جاءت مصر بدرجة متدنية تكاد تضعها في ذيل التصنيف رغم حجم اقتصادها واتساع قطاعاتها الإنتاجية والخدمية ومع ذلك فإن غياب سجل مركزي واضح للملكية الفعلية وضعف تعريف الجهات المخولة بالوصول إلى البيانات وغياب التحديث المنتظم يجعل البيئة الاقتصادية المصرية بيئة مثالية لاستمرار الشركات الواجهة التي تتسلل إلى مشروعات الدولة وتتحرك في دورات مالية معقدة لا يعرف المواطن فيها من يقف وراء الشركات التي تحصل على العقود الكبرى أو تستحوذ على مزايا لا تتاح لغيرها
وتزداد أهمية هذه المقارنة حين ندرك أن غياب الشفافية لم يعد خطرا داخليا فقط بل أصبح عاملا يؤثر على مكانة الدول في محيطها وعلى قدرتها على جذب الاستثمار وعلى ثقة المواطنين في مؤسساتهم فالبلدان التي سبقت مصر لم تكن الأكثر غنى ولا الأقوى اقتصادا بل كانت الأكثر وضوحا في اختيارها لكشف الملاك الفعليين للشركات وفتح أبواب الرقابة أمام المجتمع بينما ظلت مصر في مساحة رمادية لا تسمح بالتحقق ولا تتيح المعرفة ولا تقدم الإصلاح المطلوب
في السنوات الأخيرة بدأت المنطقة كلها تتحرك في اتجاه كشف الملاك الحقيقيين للشركات بعد أن صار واضحا كيف استُخدمت الشركات المجهولة لعقود طويلة كأدوات لإخفاء تضارب المصالح وتوجيه المال العام لأطراف خفية لا يعرف أحد من يقف وراءها ولا كيف تتحرك هذه الأموال بينما كانت مصر تدخل هذا المشهد وهي محملة بتاريخ فساد ممتد وغياب شبه كامل للشفافية في هيكل ملكية الشركات خاصة تلك التي تعمل في قطاعات الدولة الكبرى إلا أن الصورة التي يرسمها التقرير الأخير تكشف أن مصر رغم ثقلها الاقتصادي والسياسي لم تتقدم بالشكل الطبيعي الذي يتوقعه أي مراقب بل جاءت في مرتبة متأخرة تكاد تقف على حافة القاع مقارنة بدول ربما أقل حجما لكنها أكثر جدية في إصلاح أنظمة الملكية الفعلية
حين تنظر إلى المؤشرات التي وردت بالتقرير تجد أن الجزائر والمغرب وتونس استطاعت أن تبني أرضية واضحة لإتاحة بيانات المستفيدين الحقيقيين وأن تضع آليات للوصول إلى المعلومات وتحديد الجهات المختصة بشكل صريح بينما جاءت مصر بدرجة هزيلة لا تكاد تتجاوز السابع عشر ما يجعلها أعلى فقط من ليبيا التي تعاني من غياب الدولة نفسها وهذا التراجع لا يعود إلى غياب الإمكانات بل إلى غياب الإرادة وغياب الرغبة في أن يرى المواطنون والصحفيون والباحثون والجهات الرقابية الصورة الكاملة لملكية الشركات التي تدخل السوق وتنافس وتحصل على عقود الدولة الكبرى دون أن يعرف أحد من يملك ماذا ؟ومن يستفيد من ماذا؟
المفارقة أن مصر تظهر التزاما أكبر في الجانب المالي المصرفي حيث تعمل البنوك تحت ضغط دولي مباشر وتلتزم بإجراءات مكافحة غسل الأموال وتحقق درجات أعلى من الأردن وفلسطين لكنها في المقابل لا تقدم الشفافية الضرورية التي تمنع الفساد قبل أن يصل إلى النظام المالي وهذا يعكس معادلة غريبة تؤكد أن الدولة تحرص على الامتثال الشكلي لتجنب العقوبات لكنها لا تمس البنية العميقة التي تسمح بتكوين شبكات مصالح مغلقة حول المال العام والعقود الكبرى والتوريدات الضخمة
ولأن الوصول إلى بيانات الملاك الفعليين ليس مسألة تقنية بل مسألة سياسية يصبح مفهوما لماذا لم تحدد القوانين المصرية الجهات المختصة بشكل واضح رغم أن هذه الخطوة وحدها كفيلة برفع قدرة الدولة على مواجهة الفساد والتهرب الضريبي وتمويل الأنشطة غير المشروعة في المقابل فعلت دول مثل المغرب وتونس هذه الخطوات بشكل مباشر وصريح فرفعت درجاتها وتقدمت في مسار الشفافية بينما ظلت مصر تراوح مكانها بين نصوص عامة تترك الباب مفتوحا للاجتهاد والانتقاء
يشير التقرير الي ان هذه الفجوة ليست تفصيلا وإنما هي جوهر المشكلة لأن غياب سجل مركزي علني أو شبه علني للملكية الفعلية يسمح باستمرار الشركات الواجهة التي تظهر أمام الناس بأسماء شكلية بينما يختبئ الملاك الحقيقيون خلف نظم قانونية مصممة لإخفاء السيطرة بينما تتحرك هذه الكيانات داخل أكبر مشروعات الدولة وتستفيد من المال العام دون قدرة حقيقية على المحاسبة أو التتبع وفي الوقت نفسه تتقدم دول أخرى في المنطقة نحو بناء قواعد بيانات محدثة تتيح للجهات الرقابية والباحثين والصحافة تتبع حركة الملكية ومنع إساءة الاستخدام
التقرير يشير إلى أن المغرب وتونس تحديدا قطعتا شوطا أكبر في تحديد المالك الفعلي والحد من إساءة استخدام الشركات بينما بقيت مصر في خانة الدول التي توفر الحد الأدنى من المعلومات ولا تقدم البيئة التي تسمح بكشف تضارب المصالح في العقود العامة أو تتبع حركة الثروة التي تنتقل من القطاع العام إلى الخاص دون شفافية ودون سياج رقابي حقيقي وهذا الانكشاف يجعل السوق المصرية بيئة خصبة للممارسات التي تشوه المنافسة وتمنح الأفضلية لكيانات مجهولة لا يعرف عنها المواطن سوى الاسم التجاري
التقييم العام الذي يقدمه التقرير يعكس أن مصر أصبحت الحلقة الأضعف في مجال الشفافية مقارنة بدول المنطقة رغم أن حجم الاقتصاد المصري وحجم المشروعات الحكومية يجعلان الحاجة إلى الإفصاح أكبر وأكثر إلحاحا من أي دولة أخرى فغياب تسجيل الملكية الفعلية لا يضر فقط بمنظومة مكافحة الفساد بل يضر بالمنافسة وبالسوق وبالقطاع الخاص وبقدرة الدولة على تحصيل الضرائب وبثقة المواطن التي تتآكل كل يوم حين يرى أن الشركات التي تحصل على أكبر العقود لا يعرف أحد من يقف وراءها
إن مقارنة مصر بالدول الأخرى ليست مجرد مفاضلة رقمية بل هي مؤشر على مسار اختارته الدولة في التعامل مع ملف الشفافية فبينما تحركت الجزائر والمغرب وتونس خطوات واسعة نحو تعريف المستفيد الحقيقي وبناء أنظمة واضحة بقيت مصر أسيرة نصوص غير محددة ونظام غير قادر على إنتاج بيانات يمكن الاعتماد عليها وتطبيق يمكن التلاعب به بسهولة وهذا يترك الباب مفتوحا لتمرير العقود وتوزيع المنافع في مساحات بعيدة عن عين الدولة وعن عين الجمهور
في النهاية يظهر أن وضع مصر لا يتحسن ليس لأنه غير قائم على غياب الموارد أو نقص القدرات بل لأنه مبني على قرار سياسي بعدم كشف بنية ملكية الشركات التي تتحرك داخل الاقتصاد المصري فما لم يتحول هذا القرار ويتغير الاتجاه نحو سجل مركزي واضح وحديث ومتاح للجهات الرقابية وللصحافة وللباحثين ستظل مصر في مؤخرة التصنيف حتى حين تتقدم دول أصغر وأقل إمكانا لأن الشفافية ليست مسألة حجم بل مسألة إرادة

