حسن البربري يكتب: هل قانون العمل الجديد يمثل عبئا على وزارة العمل والحكومة؟
حين أصدرت الحكومة قانون العمل الجديد رقم 14 لسنة 2025 قدمته باعتباره نقلة نوعية في مسار علاقة العمل في مصر وبوصفه قانونا عصريا يواكب متغيرات سوق العمل ويحمي حقوق العامل وصاحب العمل على حد سواء لكن ما حدث بعد صدور القانون ودخوله حيز التنفيذ كشف أن الحكومة ربما تسرعت في إقراره دون أن تمتلك رؤية واضحة أو استعدادا فعليا لتطبيقه.
فالقانون الذي من المفترض أن يكون أداة لتنظيم علاقات العمل وتحقيق التوازن بين أطرافه وجد نفسه في أول اختبار حقيقي مع ارتفاع أسعار البنزين وما تبعه من موجة غلاء متوقعة في السلع الأساسية التي يعتمد عليها العامل في حياته اليومية هذه الموجة لم تأت من فراغ بل جاءت في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري أصلا من معدلات تضخم مرتفعة مما ضاعف من آثار زيادة الأسعار حيث أظهرت مؤشرات التضخم ارتفاعات متزايدة في أسعار السلع الأساسية التي يعتمد عليها العامل واسرته بينما ظلت الأجور كما هي دون أي تحريك أو مراجعة للحد الأدنى الذي لم يعد يكفي احتياجات العامل الأساسية.
وفي ظل هذا المشهد ظهر سؤال ملح” هل كان القانون طموحا أكثر من قدرة وزارة العمل والحكومة على تطبيقه؟ هل يمكن أن نعتبره قانونا سابقا لأوانه صدر قبل أن تتوافر له البيئة التنفيذية والإدارية القادرة على تحويل نصوصه إلى واقع؟”
الواقع يقول إن الحكومة لم تكن مستعدة فعلا لتطبيق القانون بدليل غياب اللائحة التنفيذية حتى الآن وهي التي يفترض أن تشرح وتفصل مواد القانون وتحدد كيفية التطبيق وآليات الرقابة فكيف يمكن لقانون بهذا الحجم يمس حياة ملايين العمال أن يدخل حيز التنفيذ من دون لائحة تنفيذية واضحة؟ وكيف يمكن أن تطالب وزارة العمل أجهزة الدولة والقطاع الخاص بتطبيق قانون لا تعرف هي نفسها كيف ستنفذه؟
المفارقة أن أول اختبار عملي للقانون جاء مع الأزمة الاقتصادية فإذا بالمشكلات تتكشف تباعا فوزارة العمل بدت مرتبكة في تفسير بعض المواد والوزير نفسه خرج أكثر من مرة بتصريحات متناقضة حول وضع العاملين في القطاع غير الرسمي وحول آلية احتساب الأجر الشامل وربطه بالحد الأدنى الجديد أما المجلس القومي للأجور الذي انتهت مدة تشكيله بانتهاء العمل بالقانون القديم فلم يُعاد تشكيله وفقا للقانون الجديد حتى الآن ومع ذلك يستمر بعض أعضائه في الإدلاء بتصريحات وكأنهم ما زالوا ممثلين رسميين للمجلس.
هذا الارتباك لا يعكس فقط خللا في إدارة الملف العمالي بل يطرح تساؤلا أكبر حول مدى قدرة الحكومة على التعامل مع تشريعاتها الجديدة فإذا كان قانون بهذه الأهمية قانون يمس الأمن الاجتماعي ومصدر رزق ملايين الأسر يصدر دون إعداد مؤسسي ودون تدريب الكوادر التنفيذية على فهمه وتطبيقه فكيف يمكن أن نتحدث عن تطوير منظومة العمل أو حماية الحقوق أو جذب الاستثمار كما يقال في الخطاب الرسمي؟
الحقيقة أن الحكومة وضعت نفسها في مأزق فهي من جهة تريد أن تظهر بصورة الدولة التي تُحدث تشريعاتها وتطور بنيتها القانونية ومن جهة أخرى لم تمتلك القدرة العملية على تنفيذ ما شرّعته والنتيجة أن القانون تحول من خطوة إصلاحية منتظرة إلى عبء جديد على وزارة العمل، بل وعلى الحكومة بأكملها.
الوزير يواجه ضغوطا متزايدة من العمال الذين ينتظرون تطبيق بنود تتعلق بالأجور وساعات العمل والحماية من الفصل التعسفي و الصحة و السلامة المهنية وفي الوقت نفسه يواجه مقاومة من بعض رجال الأعمال الذين يعتبرون القانون الجديد زيادة في الأعباء وبين الطرفين يقف الوزير والحكومة عاجزين عن الحسم لأن البنية المؤسسية غير جاهزة ولأن الاقتصاد نفسه لا يحتمل كلفة التطبيق الكامل.
يبقى السؤال الأخير: لماذا تتلكأ الحكومة في مواجهة هذه التحديات؟ ولماذا لم يتم حتى الآن إصدار اللائحة التنفيذية او قرارات وزارية كما ادعت أو إعادة تشكيل المجلس القومي للأجور؟ ولماذا يظل التعامل مع قضايا العمال بنفس عقلية القانون القديم وكأننا لم نصدر قانونا جديدا؟
ربما لأن الحكومة لم تكن تتوقع أن يصبح هذا القانون عبئا عليها وربما لأنها لم تدرك بعد أن إصدار القوانين دون استعداد لتطبيقها لا يضيف إلى رصيدها شيئا بل يكشف حدود قدرتها ويُظهر هشاشة مؤسساتها و يظهر تناقض الدولة بين خطابها الاجتماعي وواقع سياساتها المالية فهي تتحدث عن العدالة الاجتماعية بينما وزير ماليتها السابق يعلن أن الدولة غير قادرة على زيادة الأجور أو المعاشات. وهي تروج لقانون عمل جديد يرفع شعار حماية العامل بينما رئيس وزرائها نفسه يصرح بأن 80% من القوة العاملة في القطاع الخاص خارج أي التزام حكومي في مسألة الأجر. هذه المفارقة تكشف أن الحكومة لم تعد تملك حتى أدوات تنفيذ القانون الذي أقرّه البرلمان لأنها تخلت عمليا عن مسؤولية تنظيم سوق العمل لصالح منطق السوق الحر.
وهكذا يتحول قانون العمل من أداة لتنظيم العلاقة بين العامل وصاحب العمل إلى عبء على الحكومة نفسها لأنها عاجزة عن فرضه على رجال الأعمال وعاجزة عن تحمل تكلفته في القطاع العام فبدلًا من أن يكون القانون خطوة نحو إصلاح سوق العمل وضمان حد أدنى من العدالة أصبح شاهدًا جديدا على حدود الدولة وعجزها عن أداء دورها الاجتماعي..

