إلهامي الميرغني يكتب: تاريخ تطور النظام الصحي في مصر
بعد اعلان المتحدث باسم وزارة الصحة عن تأجير عدد من وحدات الرعاية الصحية الأولية أصبح من الضروري ان نبحث عن تطور النظام الصحي في مصر عبر المراحل الزمنية المختلفة.
الصحة في العصور القديمة
خلال الحضارة المصرية القديمة ظهرت المستشفيات المبكرة في شكل “بيوت الحياة” داخل المعابد، حيث كان يتم التعليم الطبي وتخزين البرديات الطبية. من أشهر الوثائق الطبية:
– بردية إيبرس (1550 ق.م) → أدوية وعلاجات بالأعشاب
– بردية سميث الجراحية → صدرت عام 1600 ق.م البردية عبارة عن دليل جراحي يشرح كيفية تشخيص وعلاج الإصابات والكسور والجروح بطريقة منظمة.
أما خلال العصر اليوناني الروماني فتم تأسيس مكتبة الإسكندرية ومدرسة الطب بها الذي جعل مصر مركزًا عالميًا للعلم. كان هناك نظام مستشفيات يسمى “الزِّنَقَات” لمعالجة الجنود والمرضى ثم بدأ الاهتمام بـ التشريح والبحث العلمي.
أما في العصر الإسلامي فتم إدخال نموذج البيمارستان (المستشفى المتكامل). كانت المستشفيات: مجانية، تقدم خدمات علاجية وإقامة وغذاء، بها صيدليات منظمة. كما ازدهر الطب الوقائي (تنقية الماء، الرقابة على الأسواق).
أدخلت الحملة الفرنسية التطعيم ضد الجدري، سجلات المواليد والوفيات، مفهوم الصحة العامة والرقابة الصحية.
أما عصر محمد علي باشا فشهد تأسيس أول مدرسة طب حديثة وهي مدرسة طب القصر العيني على يد كلوت بك عام 1827 كما تم تنظيم المستشفيات وإنشاء مستشفى القصر العيني التعليمي كما تم الاهتمام بالصحة العامة وتنفيذ حملة واسعة للتطعيم الإجباري ضد الجدري وكذلك تدريب الكوادر من خلال إنشاء مدرسة قابلات وقطاع صحي عسكري. فقد كان هدف النظام الصحي لمحمد على بناء جيش قوي من مصريين اصحاء في وقت كان الريف المصري فيه يعاني الفقر والجهل والمرض. إضافة الي خدمة الجيش وحروبه التوسعية ولكنه قدم لمصر خدمة كبري وقفزة في تطوير النظام الصحي.
تطور النظام الصحي وصولا لإنشاء وزارة الصحة العمومية
كان النظام الصحي المصري يتشكل على النحو التالي:
1- مصلحة الحجر الصحي (مصلحة الكورنتينا) وتم إنشائها عام 1883 وكانت تابعة لوزارة الداخلية.
2- مصلحة المستشفيات الحكومية والتي بدأ تأسيسها منذ 1904 ثم توسعت في العشرينيات وكانت تابعة لوزارة الداخلية ثم لوزارة الأشغال العمومية والمجالس البلدية أحيانًا وتركز نشاطها على إدارة المستشفيات الحكومية في المحافظات وكانت قليلة ومتركزة بالمدن.
3- مصلحة الصحة العمومية تم إنشائها عام 1923 وكانت تابعة لـوزارة الداخلية وتركز دورها علي: مكافحة الأوبئة (خاصة الكوليرا والجدري)، الإشراف على الحجر الصحي بالموانئ، بدء حملات التطعيم الأولية، متابعة سجلات المواليد والوفيات.
4- مصلحة الملاريا والأمراض المتوطنة تم إنشائها عام 1925 وكانت تتبع مصلحة الصحة العمومية وتركز نشاطها على حملات تجفيف البرك والرش بالمبيدات للسيطرة على الملاريا والبلهارسيا.
5- مصلحة الصيدلة والرقابة على الأدوية (النواة الأولى للصيدلة الحكومية) تم إنشائها عام 1930 وكانت تابعة لوزارة التجارة والصناعة وتهتم بتسجيل الأدوية المستوردة والمحلية، والرقابة على محال العطارة والصيدليات.
توجت هذه المرحلة بإنشاء وزارة الصحة العمومية عام 1936 في حكومة علي ماهر باشا، لم تُنشأ الوزارة من الصفر، بل تم توحيد المصالح الصحية التي كانت موزعة بين وزارات وهيئات مختلفة، وكان الهدف تجميع العمل الصحي في جهاز حكومي واحد بدلًا من التشتت، وتولي محمد شاهين باشا أول وزارة للصحة في مصر.
عام 1942تم إنشاء مصلحة الصحة القروية في مصر ضمن برنامج إصلاح صحي واسع استهدف توسيع خدمات الصحة العامة إلى الريف لأول مرة بشكل منهجي. كانت الحالة الصحية في الريف المصري متدهورة بشدة (انتشار البلهارسيا – الملاريا – الأنيميا – الأمراض الجلدية – وفيات عالية عند الأطفال). وكانت المصلحة مسؤولـة عن:
• إنشاء الوحدات الصحية الريفية.
• تدريب الممرضين والقابلات الريفيات.
• عمل حملات التطعيم الجماعي.
• مكافحة الأمراض المتوطنة (البلهارسيا – الملاريا – الديدان).
وتم افتتاح أول وحدة صحية ريفية تجريبية في قرية ميت ناجي بمحافظة الدقهلية سنة 1942، ثم توسع المشروع تدريجيًا.
الوضع الصحي بعد ثورة يوليو 1952
ظل حلم تطوير وتحديث الريف المصري والاهتمام بالتعليم والصحة المجانية هدفاً لثوار يوليو ولكن كانت التطورات بطيئة. لكن عام 1961 حدث متغير كبير غير وجه الرعاية الصحية في مصر عندما تم تعيين الدكتور محمد النبوي المهندس أستاذ طب الأطفال بالقصر العيني وزيراً للصحة عام 1961 وهو أبن مركز جرجا بمحافظة سوهاج.
لم يكن الدكتور النبوي المهندس مجرد طبيب او أستاذ جامعي تولي وزارة الصحة بل صاحب رؤية تنموية متكاملة بدأ بنظام التأمين الصحي والتطعيم ضد شلل الأطفال وهيئة الإسعاف ومعهد القلب ومعهد السمع والكلام والوحدات الصحية الريفية ومراكز تنظيم الأسرة. تبلورت رؤيته في إنشاء وحدات مجمعة في القرى الكبيرة تضم وحدة صحية ووحدة زراعية ووحدة اجتماعية، لمحاربة أعداء الفلاح الثلاثة “الجهل والفقر والمرض”، وللأسف توقف العمل في هذا المشروع للخلاف الذي حدث بين الوحدات الثلاث حول من سيكون مديرا للمجمع، وأخيرا استقلت كل وحدة منها لتتبع الوزارة المختصة.
كان مشروع الدكتور النبوي المهندس يستهدف بناء 2500 وحدة صحية في الريف ولكنه لم يتمكن الا من إنشاء 1500 وحدة صحية ريفية أحدثت قفزة كبري في نظام الرعاية الصحية وتم استكمال المشروع ولكن بدون الرؤية الشاملة للنبوي المهندس الذي وافته المنية عام 1968 وهو في مكتبه عن عمر يناهز 53 سنة ولكنه حفر اسمه في سجل البنائين المصريين.
ولكي يضمن الدكتور النبوي المهندس توافر الأطباء اللازمين ليكون هناك طبيب علي الأقل في كل وحدة صحية ريفية. اهتم بالتعليم الطبي وابتكر نظام تكليف الأطباء ليضمن الحفاظ على مستوي الخدمة الصحية في الوحدات الريفية.
الدكتور النبوي المهندس منذ توليه الوزارة عكف على إنشاء شبكة الوحدات الصحية في الريف بواقع وحدة صحية في كل قرية، ومجموعة صحية في القرى الكبرى ومستشفى مركزي في كل مركز، ومستشفى عام في عاصمة كل محافظة، ليبلغ عدد الوحدات الصحية في ذلك الوقت 2500 وحدة لتمتلك مصر واحدة من كبرى الشبكات الصحية في العالم.
ولكن مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر منذ سبعينات القرن الماضي امتدت للوحدات الصحية الريفية ووحدات الرعاية الصحية الأساسية، فبدء تقليص الانفاق عليها ثم توالت أعطال الأجهزة الطبية دون صيانة، ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، ونقص الفريق الطبي من أطباء وتمريض بحيث أصبحت مئات الوحدات عاجزة عن تقديم الخدمة الصحية. ثم بدء تنفيذ خدمة اقتصادية بعد مواعيد العمل الرسمية داخل الوحدات وأخيرا خرج علينا الدكتور خالد عبد الغفار وزير الصحة بفكرة تأجير وحدات الرعاية الصحية الأولية.
وحدات الرعاية الصحية الأولية
نظام الرعاية الصحية الأولية هو خط الدفاع الأول من النظام الصحي، أي الخدمات الصحية الأساسية التي يحصل عليها الناس قريبًا من أماكن سكنهم دون الحاجة للذهاب إلى المستشفيات الكبيرة. وهو النظام الذي يهتم بالوقاية قبل العلاج، وبالكشف المبكر، وبالحفاظ على الصحة العامة للمجتمع. وقد عرفت منظمة الصحة العالمية الرعاية الصحية الأولية بأنها الرعاية الصحية الأساسية التي تكون متاحة لجميع الأفراد والأسر في المجتمع، بوسائل مقبولة لديهم، وبأقل تكلفة ممكنة، اعتمادًا على المشاركة المجتمعية والاستخدام الأمثل للموارد.
بدلًا من أن يذهب المريض إلى المستشفيات عند كل مرض صغير، يتم تقديم الخدمات من خلال: الوحدات الصحية، المراكز الصحية، العيادات الأساسية، رعاية الأم والطفل.
عام 2001 كان عدد سكان مصر 65.3 مليون نسمة وكان يوجد 254 مركز رعاية صحية بالحضر و2728 وحدة صحية بالريف، وفي عام 2010 أصبح عدد سكان مصر 78.6 مليون نسمة وعدد الوحدات في الحضر 229 وحدة وفي الريف 4980 وحدة.
عام 2016 وصل عدد سكان مصر الي 91 مليون نسمة وأصبح عدد وحدات الرعاية الصحية في الحضر 695 وفي الريف 4336، وعام 2021 وصل عدد السكان الي 102 مليون نسمة يخدمهم 85 عيادة شاملة بالحضر، 134 مركز رعاية طفل، 636 مركز طب اسرة بالحضر و4131 مركز بالريف ليصل الإجمالي الي 4986 رغم زيادة السكان 11 مليون نسمة ما بين 2016، 2021.بل أن عدد الوحدات الريفية انخفض من 4980 وحدة في 2010 الي 4131 وحدة في 2021 رغم زيادة السكان.
وعندما وصل عدد السكان الي 107 مليون في 2025 يخرج علينا المتحدث باسم الصحة يبشرنا بتأجير مراكز الرعاية الصحية الأولية. وفقا لمعايير الصحة العالمية يجب ان يكون لدينا مركز رعاية صحية لكل 20.4 ألف نسمة وبذلك نحتاج 5245 مركز رعاية صحية أولية. ولكن يبقي السؤال هل يتوفر لدي وزارة الصحة العدد الكاف من الأطباء والتمريض لتشغيل مراكز الرعاية الصحية الأولية. وهل تتوفر الأجهزة والمستلزمات الطبية والأدوية اللازمة؟! وهل يتوفر التمويل اللازم للتشغيل والصيانة ؟!
بدلا من دعم الخدمة الصحية كخط الدفاع الأول عن الصحة في مصر تسعي الحكومة لتأجير بعض وحدات الرعاية الصحية الأولية لتحرم الملايين من المصريين من الحصول على الخدمة في ظل معدلات فقر تتجاوز 35% من السكان أي حوالي 37.5 مليون نسمة لن يستطيعوا الحصول على خدمات الرعاية الأولية ويصبحوا فريسة للأمراض والأوبئة ولأطماع القطاع الخاص والمستثمرين. الصحة حق وليست سلعة للبيع والشراء.

