يحيى الجعفري يكتب: السردية الإسرائيلية …أكاذيب تفضح العالم الحر
منذ قيام إسرائيل عام 1948، لم تكن الحكاية مجرد إعلان لدولة جديدة في الشرق الأوسط، بل كانت مخاض لسردية متكاملة صيغت بعناية، وكذبة حيكت بدقة، لتصبح عقيدة سياسية وأخلاقية للغرب بأسره.تقوم هذه السردية على شعار مألوف في كتب التاريخ والدعاية معًا: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
لكن الحقيقة التي يسعى التاريخ لطمسها تقول إن ما جرى لم يكن ميلاد دولة، بل إعادة إنتاج لمشهدٍ أقدم عرفته الإنسانية، حين أُبيد السكان الأصليون في القارة الأمريكية ليُقام على عظامهم أنقاض بيوتهم ما يسمى اليوم بـ“العالم الحر”.
من إبادةٍ إلى أخرى
في جوهر الموقف الأمريكي من إسرائيل، لا تكمن المشكلة في الدعم السياسي أو العسكري فحسب، بل في عمق الفكرة التي يستند إليها هذا الدعم. فإسرائيل بالنسبة لواشنطن ليست مجرد حليفٍ في الشرق الأوسط، بل هي استمرار لتجربةٍ وجودية عاشها الغرب ذاته: تجربة الإبادة والاستيطان وإحلال شعبٍ مكان آخر باسم “الحق التاريخي” و“الرسالة الحضارية”.
ولعلّ المقارنة هنا ليست مجازية. الولايات المتحدة التي تدافع اليوم عن إسرائيل، قامت بدورها على أنقاض نحو خمسة ملايين من السكان الأصليين في القرون الأولى للاستعمار الأوروبي (بحسب تقديرات متحف الهنود الأمريكيين الوطني في واشنطن).
وكما صُوِّر الهنود الحمر في القرون الماضية على أنهم “برابرة يقفون في وجه التمدن”، يُصوَّر الفلسطيني اليوم في الخطاب الغربي على أنه “إرهابي يعارض السلام”. في الحالتين، يتبدّل القناع، لكن المضمون واحد: الجلاد يرتدي ثوب المخلّص، والضحية تُدان لأنها قاومت.
الجذر العقدية للسردية
عند التعمق في الوعي الغربي، نجد أن الفكرة الصهيونية لم تكن غريبة عن المخيلة الغربية. فهي جزء من التراث العقدي والثقافي الذي شكّل وعي المستعمر الأوروبي.
لقد رأى الأمريكيون الأوائل أنفسهم “شعب الله المختار” في أرض الميعاد الجديدة، تمامًا كما يصوّر الإسرائيليون أنفسهم اليوم في فلسطين. ولذلك لم يكن غريبًا أن نرى اللجنة اليهودية الأمريكية تخلد ما قال هاري ترومان الذي أعترف بهذه الدولة بعد عشر دقائق من إعلان تأسيسها فحسب ” لقد آمنت بإسرائيل حتى قبل تأسيسها. كنت أعلم أنها مبنية على حب الحرية، الذي كان نبراس الشعب اليهودي منذ عهد موسى”. وأضاف: “أعتقد أن أمامها مستقبلًا باهرًا، ليس فقط كدولة ذات سيادة، بل كتجسيد للمُثُل العليا لحضارتنا”. ترومان الذي ربما تأثر تأثر بما قاله الحاخام إسحاق هرتزوغ له ذات مرة “لقد وضعك الله في رحم أمك لتكون أداةً لإعادة إحياء إسرائيل بعد ألفي عام”.
من هنا يمكن القول إن إسرائيل لم تكن مشروعًا سياسيًا منفصلًا عن الغرب، بل مرآة لضميره التاريخي الملوث، تعكس الوجه الذي لا يريد الاعتراف به: وجه القوة الغاشمة التي تبرّر الغزو باسم الحضارة، والهيمنة باسم التنوير.
العالم الحر… حين يختبئ خلف الأكاذيب
لكن الخطر الأكبر بالنسبة لواشنطن وأوروبا لا يكمن في احتمال سقوط إسرائيل، بل في سقوط السردية التي قامت عليها.
فإذا انهارت الأكذوبة الإسرائيلية، سينكشف بالتبعية زيف “الأسطورة الغربية” نفسها. كيف يمكن للعالم الحر أن يواصل ادعاء الدفاع عن العدالة، وهو يغض الطرف عن الاحتلال والتطهير العرقي؟
ديمقراطية كاذبة على أنقاض الشعوب الآخري
لطالما برّرت واشنطن دعمها لإسرائيل بأنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. وبعيدًا عن التساؤل المشروع عن مدى إمكانية قيام ديمقراطية على أنقاض القرى المهدّمة، وعلى جماجم شعبٍ طُرد من أرضه؟ فتقرير هيومن رايتس ووتش (2021)، وهي منظمة أمريكية، وصف النظام الإسرائيلي بأنه “نظام فصل عنصري بحكم القانون والواقع”، مؤكّدًا أن ما يجري في فلسطين ليس صراعًا سياسيًا، بل مشروع هيمنة مستمر.
معركة الرواية
في المقابل، لم يكن العرب مجرد شهودٍ صامتين على هذه الأكذوبة. فمنذ رفضهم لمشروع التقسيم عام 1947، خاضوا معارك متعددة دفاعًا عن الأرض والهوية. غير أن المعركة الأخطر لم تكن عسكرية، بل إعلامية وسردية، لأن من يمتلك الرواية يمتلك الذاكرة، ومن يملك الذاكرة يملك المستقبل.
لقد أدركت إسرائيل مبكرًا هذه الحقيقة. فأنشأت منذ تأسيسها مؤسسات متخصصة في الدبلوماسية العامة والإعلام مثل الوكالة اليهودية للإعلام الدولي وهاسبرا، لتروّج روايتها في العواصم الغربية.
وفي المقابل، تأخر العرب كثيرًا في بناء خطاب بديل قادر على المنافسة في المنابر الدولية. وهكذا نجحت إسرائيل في ترسيخ صورتها كـ“دولة صغيرة محاطة بالأعداء”، بينما صُوّر الفلسطيني كتهديدٍ دائم “للسلام”.
تصدّع السردية
غير أن المشهد بدأ يتغير في السنوات الأخيرة، فالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي أزالت الحواجز وهشمت جدار الثلج بين الحقيقة والدعاية. لم يعد الإعلام الغربي قادرًا على إخفاء صور الأطفال تحت الركام ولا تبرير قصف المستشفيات.
بل إن الحركات الطلابية في الجامعات الأمريكية — من كولومبيا إلى هارفارد — رفعت شعارًا لم يكن ممكنًا قبل عقدين: “من النهر إلى البحر، فلسطين حرة” (تغطية واشنطن بوست، مايو 2024).
إنها لحظة فارقة تشير إلى بداية تصدّع الرواية التي ظلّت محصّنة لعقود.
سقوط القناع
هل يمكن أن تكون الحرية حقيقية إذا كانت قائمة على استعباد الآخرين؟
بين الماضي والحاضر
ما يجري اليوم في فلسطين ليس مجرد نزاع سياسي على أرض، بل اختبار أخلاقي للضمير الإنساني.
وتمامًا كما لم تستطع أمريكا أن تُخفي تاريخها الدموي في إبادة السكان الأصليين، لن تستطيع أن تُخفي شراكتها في مأساة فلسطين.
فالشعوب قد تُخدع لبعض الوقت، لكنها لا تُخدع إلى الأبد.
وفي النهاية، قد لا يكون سقوط الأكذوبة الإسرائيلية حدثًا سياسيًا فحسب، بل لحظة أخلاقية فاصلة في تاريخ الإنسانية، حين يعترف العالم بأن الحرية الحقيقية لا تُقاس بعدد حاملات الطائرات، بل بعدد المرات التي نتمسك فيها بالقيم حتى عندما لا تكون في صالحنا.
