حسن البربري يكتب: السلطة الأبوية في أعلى مراحلها.. الحكومة المربية والشعب التلميذ
في الشهور الأخيرة، بدا واضحًا أن الدولة المصرية قررت أن تدخل إلى ملعب جديد: ملعب الأخلاق. فبعد سنوات كان الخطاب الرسمي فيها متركزًا على الأمن، والاستقرار، ومحاربة الإرهاب، جاءت موجة مفاجئة من التصريحات الحكومية عن “القيم”، “الالتزام بالسلوكيات”، و”حماية المجتمع من الانحراف” و الحفاظ علي ” القيم الاسرية”
اللافت أن هذه التصريحات انتقلت إلى الفعل المباشر عبر حملة واسعة ضد عدد من صانعي المحتوى على تيك توك أما التهم فجاهزة: خدش الحياء العام، نشر الفسق والفجور، إساءة استخدام وسائل التواصل.
عناوين معتادة، لكن توقيت الحملة وتركيزها على فئة بعينها يثير التساؤلات: هل تحولت الدولة فجأة إلى “حامي حمى الأخلاق”؟
الإجابة حاول الرئيس نفسه أن يقدّمها، حين أكد في خطابه باحتفالية المولد النبوي أن “مؤسسات الدولة ملزمة بالضوابط الأخلاقية”.. وهنا تتضح الفكرة: لم تعد الحكومة فقط مسؤولة عن الاقتصاد والسياسة، بل أصبحت ترى نفسها “المربي” الأعلى للمجتمع، تضع القواعد، وتراقب السلوك، وتقرر ما هو مسموح وما هو محظور.
لكن أي أخلاق تتحدث عنها الدولة؟
عند أول اختبار، يسقط هذا الخطاب أمام واقع أكثر فجاجة.. الدراما المصرية خلال العقد الأخير –التي احتكرت إنتاجها إحدى الشركات التابعة لأحد الأجهزة– لم تكن سوى مسلسل طويل من مشاهد العنف المفرط، تمجيد البلطجة، العلاقات المشوهة، والاستهلاك السطحي.. كيف يمكن لدولة موّلت هذه الأعمال أن تدّعي اليوم أنها “حارس الأخلاق”؟
والمفارقة لا تتوقف عند الدراما، يكفي أن نفتح مواقع التواصل الاجتماعي لنجد سيلًا من الصور والفيديوهات القادمة من حفلات الساحل الشمالي والعلمين الجديدة: مشاهير، مطربون، وأبناء الطبقة الثرية يرقصون ويغنون على حمامات السباحة وعلى الشواطئ، مشاهد تملأ الفضاء العام بلا أي قيود. هذه الحفلات، التي صارت مادة يومية للترندات، تمر بسلام تام، دون أن يُطرح عليها سؤال “الضوابط الأخلاقية”.
في المقابل، يُزج بفتيات وشباب التيك توك إلى السجون، لمجرد بث مقطع قصير أو رقصة عابرة.. ازدواجية فجة تكشف أن المعركة ليست مع “خدش الحياء” ولا مع “انحراف القيم”، بل مع الفئات الأضعف التي يسهل السيطرة عليها.. أما طبقة الأثرياء والمشاهير، فهي ببساطة خارج هذا الحساب.
وحتى في القضايا التي تثير جدلًا واسعًا حول “حوادث أخلاقية” تورط فيها أبناء الطبقة المترفة، نجد أن التعامل الأمني غالبًا ما ينتهي إلى تستر أو حماية، بينما يُطبّق القانون بكل قسوته على البسطاء، الأخلاق هنا تتحول من قيمة عامة إلى أداة انتقائية، تُستخدم للضبط الاجتماعي حين تريد السلطة، وتتجاهل حين يكون المتورط “من علية القوم”.
خلف هذا المشهد، يظل الفساد هو الحقيقة الصلبة.. أموال تهدر في مشروعات لا يعرف أحد تفاصيلها، قرارات اقتصادية بلا شفافية، غياب تام للرقابة والمحاسبة.. ومع ذلك، لا يبدو أن خطاب “الأخلاق” يمتد ليشمل هذه المساحات، وكأن الفساد المالي والسياسي ليس جزءًا من “الأخلاق العامة”.
النتيجة أننا أمام صورة مكتملة لمرحلة متقدمة من “الأبوية السياسية”.. النظام يعامل الشعب كأنه قاصر يحتاج إلى وصاية، لا فقط في السياسة والاقتصاد، بل حتى في حياته الشخصية.
هذه الأبوية ليست سوى وجه آخر للديكتاتورية: كلما عجزت السلطة عن مواجهة أزماتها الحقيقية – من الغلاء وتدهور الخدمات إلى الاستبداد السياسي – لجأت إلى فرض وصايتها الأخلاقية.
إنها الأبوية في أعلى مراحلها.. دولة تريد أن تكون المربي والمعلم والقاضي في آن واحد، لكنها في الحقيقة تكشف مأزقها العميق: عجز عن تقديم حلول، فيُستعاض عنه بالمواعظ؛ غياب عدالة، يُغطى بحملات ضبط السلوك؛ فساد متجذر، يُغسل بخطاب عن “القيم”.

