جمال عبدالقادر يكتب: نور الشريف.. غيابك أكد حضورك

مرت عشرة أعوام على رحيل الغائب الحاضر نور الشريف؛ عشرة أعوام من حضور قوي ومؤثر بأعماله الخالدة المتنوعة، التي حملت همه الوطني والعربي. عشرة أعوام تؤكد أن نور الشريف كسب الرهان عندما اختار التاريخ على حساب الإيرادات؛ لقد راهن على القضية والمحتوى بعكس عادل إمام الذي راهن على الجماهيرية وحقَّق ما أراد، وأحمد زكي الذي انشغل بالتشخيص وجودة الأداء على حساب القضية والهمّ.

عظمة نور أنه كان مخلصًا لقناعاته وانحيازاته؛ فمنذ البداية انحاز للطبقة المتوسطة، خاض حروبها ومعاركها، انتصر لها وانهزم معها. هذه الانحيازات دفع ثمنها أحيانًا بكل رضا، دون تململ أو مزايدة، بل استمر في طريقه دون مواربة أو تراجع. ولعل أزمة ناجي العلي خير شاهد على ذلك؛ فبعد الحملة الشرسة التي قادها إبراهيم سعدة واتّهَمَ فيها نور بالخيانة العظمى، فكّر نور في مغادرة مصر نهائيًا، لكنه تجاوز الأزمة بهدوء ولم يندم على ما قدمه، بل كرر التجربة في فيلم خيط أبيض خيط أسود الذي تعرض للسرقة في أحد المعامل. وقد صرّح المخرج الإيطالي من أصل مغربي أن الموساد وراء سرقة الفيلم، وهدده بعدم تكرار الأمر؛ إذ كانت تلك فرصة جيدة لعرض وجهة النظر العربية في قضية فلسطين على الجمهور الأوروبي، ونافذة محتملة لوصول نور إلى العالمية. ظل نور حزينًا على ضياع هذا العمل.

خلال خمسين عامًا هي عمر مشواره الفني، حرص نور الشريف على التوازن بين القيمة الفنية والعمل التجاري؛ فالأولى يُقدم من خلالها قضاياه وقناعاته ويسجل اسمه في تاريخ السينما، أما الثانية فليظل نجمًا قادرًا على الإنتاج وتقديم ما يؤمن به. لذلك، حين تعاقد على بطولة حدوتة مصرية، اشترط يوسف شاهين تفرغه التام للفيلم كما جرت عادته، لكن نور خالف ذلك وتعاقد بالتوازي على أفلام غريب في بيتي والعار ومسلسل أديب. كان يدرك أن أفلام شاهين لا تحقق بالضرورة نجاحًا جماهيريًا، وأن عليه الحفاظ على اسمه في السوق. وعندما غضب شاهين، أكد نور التزامه الكامل بالتحضيرات والتصوير، وبالفعل نجح بتنظيم جدوله، فعُرض غريب في بيتي في فبراير 1982، وحدوتة مصرية في سبتمبر، والعار في أكتوبر من العام نفسه، وحققت الأعمال الثلاثة نجاحًا فنيًا وتجاريًا باهرًا.

كذلك، كسر نور قاعدة أن نجم السينما لا يعمل في التلفزيون كي لا “يحترق”؛ فخلال ذروة نجوميته السينمائية قدّم أعمالًا تلفزيونية مهمة مثل مارد الجبل، ابن ليل، الهروب، أديب، ولسه بحلم بيوم وغيرها، وحقق فيها نجاحًا كبيرًا دون أن يخسر شباك السينما، بل أصبح نجمًا فيه أيضًا. ولم يهمل الإذاعة، معتبرًا إياها تدريبًا على التعبير بالصوت في غياب الصورة، رغم ضعف عوائدها المادية.

نور حاضرٌ اليوم بما قدَّمه من نجوم في التمثيل والإخراج والتأليف، بعضهم ربما لم يكن ليظهر لولاه. فقد كان مؤسسة قائمة بذاتها، يتجاوز حدود التمثيل، ويحمل همّ تطوير صناعة السينما وتقديم وجوه جديدة. يروي المخرج محمد عبد العزيز أنه أثناء تصوير بريق عينيك في إسبانيا، ذهب نور إلى متجر متخصص في عدسات الكاميرات، اشترى مجموعة عدسات وقدّمها للمخرج ومدير التصوير قائلًا إنها ستعطي تأثيرًا بصريًا أفضل، طالبًا منهم استخدامها في كل أعمالهم، وقد كانت هدية منه لهم!

حين قرر نور خوض تجربة الإنتاج لم يكن هدفه الربح ولا استعراض قدراته، بل إيمانًا بدوره في صناعة سينما جريئة يخشاها المنتج التقليدي خوفًا من الخسارة. وهكذا بدأ بفيلم دائرة الانتقام ليقدّم نفسه كبطل أكشن بعد تقدُّم سن جيل فريد شوقي ورشدي أباظة. ومن خلاله قدم المخرج سمير سيف، ثم ضربة شمس مع محمد خان، وزمن حاتم زهران مع محمد النجار. خاض أيضًا تجارب عالية الخطورة مثل ناجي العلي رغم أزمته الشهيرة، وآخر الرجال المحترمين الذي أحبه كثيرًا رغم خسائره، وقط على نار المأخوذ عن مسرحية قطة على سطح من الصفيح الساخن لويليامز، والذي قيل له إن الجمهور قد يرفضه، لكنه أصر وقدمه وحقق نجاحًا نقديًا وجماهيريًا كبيرًا.

من حين لآخر تستدعي السوشيال ميديا مقطعًا قديمًا لنور الشريف وتعليقًا له على ما يحدث في مصر أو الوطن العربي، فيُدرك الجمهور أنه كان مثقفًا، صاحب رؤية ثاقبة، وأن كثيرًا من آرائه ما تزال صالحة حتى بعد رحيله.

نور الشريف المثقف، المخلص لفنه وموهبته وقناعاته وانحيازاته، أخلص لها فأخلصت له ومنحته الخلود؛ فالمبدعون الحقيقيون لا يرحلون، بل يتجاوزون الزمن، وتظل أعمالهم بيننا، نستدعيهم كلما احتجنا إلى الصدق، والإنسانية، والعمق.

نور الشريف.. لم نكن نعلم أننا نحبك إلى هذا الحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *