في مهب الريح؟| اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الصهيوني.. صياغة مطاطية وبنود مثيرة للجدل ورفض داخل إسرائيل (تحليل)

كتب – أحمد سعد

في وقت اعتبر فيه بعض المراقبين أن اتفاق وقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني وحزب الله خطوة نحو تهدئة التصعيد العسكري بين الطرفين، يرى جانب آخر أنه يظل اتفاقًا هشًا وغير مضمون في ظل الظروف المعقدة التي تحيط به، فتاريخ الصراع بين إسرائيل وحزب الله مليء بالتهدئات والاتفاقات التي سرعان ما انهارت بسبب خروقات وتوترات متصاعدة.. ورغم جهود المجتمع الدولي في الوساطة، لا يزال النزاع بين الطرفين محكومًا بموازين القوى العسكرية والسياسية التي قد تقلب موازين أي اتفاق، إذ يواجه الاتفاق تحديات كبيرة، أبرزها غياب آليات رصد فعالة وضمانات حقيقية لتنفيذه.

وبينما يرى البعض أن هذا الاتفاق يمثل فرصة للحد من التصعيد، فإن المخاوف من استغلاله من قبل الأطراف المعنية، تظل قائمة.

في ضوء ذلك، تظل هشاشة هذا الاتفاق هي السمة الغالبة، مع تساؤلات حول قدرته على توفير الاستقرار طويل الأمد في المنطقة.

🛑 الصيغة المطاطية وغياب الضمانات: الإشكالية اللبنانية

في أعقاب التوترات المستمرة بين لبنان وإسرائيل، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين الجانبين، والذي كان يتضمن مجموعة من البنود التي عكست مطالب كل طرف وتوقعاته من هذا التفاهم الهش. من بين هذه البنود التي أثارت الجدل والتساؤلات هو الإشارة إلى “أهمية قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701″، الذي يتبنى مطالب لبنان بالسيادة واستقلالية أراضيه. على الرغم من أنه يبدو للبعض خطوة نحو تحسين الاستقرار في المنطقة، إلا أن الجوانب التنفيذية لهذا الاتفاق تظل موضع شك في ظل الواقع السياسي والعسكري المعقد.

من منظور لبناني، يُعتبر القرار 1701 مرجعًا دوليًا لضمان سيادة لبنان على أراضيه، حيث يُظهر التزام المجتمع الدولي بالمساعدة في الحفاظ على أمن الحدود اللبنانية والضغط على إسرائيل للانسحاب من المناطق المتنازع عليها مثل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. لكن الصيغة المطاطية لهذا البند والتي نصت حسب وسائل إعلام عبرية على أن “تعترف إسرائيل ولبنان بأهمية قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701” تثير قلقًا لدى العديد من اللبنانيين.

ففي حين يطالب لبنان بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على سيادته البرية والبحرية، يجد الكثيرون أن قرار 1701، رغم قوته النظرية، يفتقر إلى آليات تنفيذ فعّالة.

وما يثير القلق هو أن إسرائيل قد تستغل القرار مرة أخرى لتبرير أعمالها العسكرية، تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”، مما يجعل تطبيق القرار على الأرض غير فعّال. إضافة إلى ذلك، لا يوجد جدول زمني محدد أو آليات رقابة صارمة لضمان التزام الطرفين بالقرار، ما يضعف مصداقيته ويجعله عرضة للتلاعب.

وفي هذا السياق، يرى العديد من المراقبين أن القرار 1701 بحاجة إلى تفسير جديد يتماشى مع الواقع الحالي في المنطقة. كذلك لا بد من دعم دولي حقيقي يعزز قدرة لبنان على مواجهة التهديدات الإسرائيلية، والتزام المجتمع الدولي بتطبيق بنوده بصورة شاملة ومتوازنة، تضمن احترام السيادة اللبنانية بشكل فعال، بعيدًا عن التأويلات السياسية التي قد تخدم مصالح إسرائيل في نهاية المطاف.

🛑 الجانب الصهيوني: تحليلات ومخاوف

من جهة أخرى، يعتبر الجانب الإسرائيلي أن البنود الخاصة بوقف إطلاق النار يمكن أن تتيح لحزب الله إعادة ترتيب صفوفه وتجديد ترسانته من الأسلحة، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا لأمن إسرائيل.

يرى الإسرائيليون أن القرار، بغياب ضمانات صارمة، يمثل فرصة لحزب الله لتخفيف الضغوط العسكرية، في حين أن الاستقرار المزعوم قد يكون مؤقتًا فقط، وقد يؤدي إلى تصعيد جديد في المستقبل. التجارب السابقة مع اتفاقيات وقف إطلاق النار أظهرت أن هذه الإجراءات، في غالب الأحيان، لا تصمد طويلاً، ما يزيد من تعقيد الصراع على المدى الطويل.

وهذا ما تجلى في عدد من التصريحات التي أدلت بها شخصيات صهيونية، حيث عبرت العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية عن استيائها من بنود الاتفاق. على سبيل المثال، وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير قال إنه يعارض بشدة وقف إطلاق النار، مُعتبرًا أن الاتفاق لا يحقق أهداف الحرب. وكتب على منصة “إكس”: “لماذا أعارض اتفاق وقف إطلاق النار؟ هذا ليس وقف إطلاق نار، إنه مجرد تهدئة مقابل تهدئة، هذا الاتفاق لا يلبي هدف الحرب المتمثل في إعادة سكان الشمال إلى ديارهم بأمان”. وأضاف بن غفير أن الاتفاق مع الجيش اللبناني “غير مضمون”، مشيرًا إلى أن الجيش اللبناني “لا يملك السلطة أو القدرة على التغلب على حزب الله”.

كما أضاف زعيم حزب “يسرائيل بيتنا”، أفيجدور ليبرمان، في تعليق ساخر عبر “إكس”: “نتنياهو قال إن الحرب ستستمر حتى النصر المطلق، لكنه لم يحدد من الذي سينتصر!”. هذه التصريحات تعكس الإحباط لدى المسؤولين الإسرائيليين من الاتفاق، ويشعرون أنه لن يؤدي إلى استقرار طويل الأمد.

من جانب آخر، اعتبر رئيس المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، أن الحكومة الإسرائيلية لم تقدم أية مبادرة سياسية حقيقية منذ بدء الحرب، وقال إن الاتفاق مع حزب الله يشير إلى أن إسرائيل “تم جرها” إلى هذا الاتفاق بسبب فشلها في إدارة الحرب. وأضاف لابيد أن هذا الاتفاق يأتي في وقت يتم فيه تدمير المستوطنات في الشمال والضفة الغربية دون تقديم حلول واقعية لإنهاء الحرب في غزة. انتقاده كان منصبًا على عدم وجود استراتيجية واضحة لإنهاء الصراع وإعادة الأمن للمواطنين الإسرائيليين في المناطق المتأثرة.

🛑 تحديات نشر الجيش اللبناني.. والدور المأمول من “اليونيفيل”

إحدى النقاط المثيرة للجدل في الاتفاق تتعلق بنشر الجيش اللبناني على الحدود الجنوبية. ورغم أنه يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة لتعزيز الاستقرار، فإنها تثير تساؤلات جدية حول جدوى هذا الإجراء في ظل عدم قدرة الجيش اللبناني على مجابهة التهديدات الإسرائيلية وحزب الله على حد سواء. فبينما تمتلك إسرائيل جيشًا متطورًا تقنيًا ومعدات عسكرية متقدمة، فإن حزب الله، كجماعة مسلحة، يمتلك قدرة قتالية غير تقليدية تشمل صواريخ بعيدة المدى وتجهيزات ميدانية. في حين يظل الجيش اللبناني في وضع ضعيف نسبياً، خاصة في ظل محدودية موارده من حيث العتاد والعدد مقارنة بالطرفين المتنازعين.

كما أن التجارب السابقة مع قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، والتي فشلت في منع التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله خلال حرب 2006، تثير قلقًا حول جدوى الاعتماد على الجيش اللبناني في الحفاظ على الأمن والاستقرار. من المهم الإشارة إلى أن الجيش اللبناني يعاني من ضغوط سياسية وعسكرية في هذه المنطقة الحساسة، حيث يعجز عن فرض سيطرته الكاملة دون مواجهة تحديات كبيرة، قد تتضمن صدامات مع حزب الله الذي يعد القوة العسكرية المهيمنة في الجنوب.

في سياق آخر، تثير بعض الفقرات في الاتفاق انتقادات واسعة من جانب لبنان، خصوصًا تلك التي تدعو إلى تعزيز دور قوات اليونيفيل في المنطقة. إذا تم توسيع صلاحيات اليونيفيل لتشمل تفتيش مناطق نفوذ حزب الله أو تنفيذ مراقبة صارمة على الحدود، فقد يُعتبر ذلك تدخلًا مباشرًا في الشؤون الداخلية للبنان. هذا الاحتمال قد يضع الحكومة اللبنانية في موقف صعب، خاصة في ظل التوترات السياسية القائمة في الداخل اللبناني.

إضافة إلى ذلك، فإن قوات اليونيفيل، رغم دورها الرمزي في حفظ السلام، قد فشلت في منع التصعيدات العسكرية بين إسرائيل وحزب الله في الماضي. ولم تتمكن من فرض التزام كامل بقرارات مجلس الأمن، خاصة تلك المتعلقة بمنع تهريب الأسلحة إلى حزب الله. هذا يشير إلى محدودية أي قوة، سواء كانت دولية أو وطنية، في حل صراع معقد له أبعاد إقليمية ودولية عميقة.

🛑 التفكيك والمصادرة: الحزب والتهديدات العسكرية

أخيرًا، ما يتعلق بالبنود الخاصة بتفكيك المنشآت غير المصرح بها ومصادرة الأسلحة غير المصرح بها، كذلك البنود التي ذكرها الإعلام العبري حول الإشراف على بيع الأسلحة أو توريدها أو إنتاجها أو المواد ذات الصلة بالأسلحة في لبنان من قبل الحكومة اللبنانية، وهي البنود التي قد يُرى أنها تشكل تهديدًا مباشرًا لوجود حزب الله العسكري.

من منظور حزب الله، هذه البنود تمثل محاولة مستمرة لنزع سلاح المقاومة اللبنانية، التي تُعد الخط الأول للدفاع ضد العدوان الإسرائيلي. المقاومة، في نظر الحزب، هي حق مشروع، وهي القوة الوحيدة التي يمكنها مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتواصلة. إضافة إلى ذلك، يشدد الحزب على أن أي خطوة تستهدف تقويض بنيته العسكرية هي انتهاك للسيادة اللبنانية وتدخل خارجي في الشؤون الداخلية.

الحزب يواجه ما يعتبره ازدواجية في المعاملة، حيث يُطلب من لبنان وحزب الله الالتزام بقيود صارمة، في حين لا يُفرض على إسرائيل أي التزامات مماثلة. في ظل هذه الأوضاع، يعتبر حزب الله أن فرض قيود على سلاحه لن يؤدي سوى إلى تقوية الموقف الإسرائيلي وزيادة تهديداتها للبنان.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أحد أسباب دخول حزب الله إلى الحرب السورية عام 2013 كان بهدف الحفاظ على خط الإمداد العسكري واللوجيستي الذي يربط إيران بسوريا، ومن ثم إلى لبنان. هذا الخط الحيوي يُعتبر شريان حياة لحزب الله، حيث يُستخدم لنقل الأسلحة والذخائر والتقنيات العسكرية من إيران عبر الأراضي السورية إلى لبنان، مما يعزز قدرات الحزب في مواجهة التهديدات العسكرية الإسرائيلية. دعم حزب الله لنظام الأسد في دمشق كان استراتيجيًا، إذ من خلال ذلك، يضمن الحفاظ على استمرارية هذا الممر الحيوي الذي يمر عبر مناطق سورية تشهد صراعًا طويلًا. كما أن تدخل الحزب في الصراع السوري يعكس تحالفه الوثيق مع إيران، التي تُعتبر الداعم الأساسي له في مساعيه لتعزيز نفوذه في المنطقة. ورغم الانتقادات الدولية والمحلية لوجوده العسكري في سوريا، يرى حزب الله أن بقائه هناك ضروري لحماية أمنه العسكري وتقوية موقفه في مواجهة تحديات الداخل والخارج.. وليس من المنطقي أن يتخلى حزب الله عن كل ذلك في اتفاق قد يسقط كسقوط أوراق الشجر في الخريف.

🛑 الخلاصة

في الختام، يبقى الاتفاق اللبناني الإسرائيلي -الذي يتضمن العديد من البنود الهامة مثل وقف إطلاق النار وتعزيز دور الجيش اللبناني واليونيفيل- عرضة للعديد من الانتقادات والتحديات. فبينما يراه البعض خطوة نحو استقرار مؤقت، يرى آخرون أنه لا يملك الضمانات اللازمة لتحقيق استقرار طويل الأمد في ظل التوترات الإقليمية المستمرة. النجاح الحقيقي لهذا الاتفاق يتطلب إرادة سياسية قوية، ودعماً دولياً منصفًا، بالإضافة إلى استراتيجيات أمنية ودبلوماسية أكثر فعالية لضمان سيادة لبنان وحماية حقوقه في مواجهة التهديدات المستمرة.. فهل يصمد الاتفاق في وجه رياح عاتية تعصف بالمنطقة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *