ربيع وهبة يكتب: نكبة جديدة أم صحوة لإنهاء الاستعمار؟

فما زالت المنطقة تشتعل بصراعات تًراق فيها دماء عشرات الآلاف، لتضرب، بذلك، مثالًا حيًا على تردي أنساق قيم الإنسانية تحت وابل نيران من أحدث الأسلحة. أصبحت نُظم القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وقيم العدالة والمساواة، وغيرها من الأنساق محل سخرية بعد أن ظننا طويلًا أنها قلاع تحمي المظلومين والعزل من أصحاب الحق.

لا تعترف قبل ’لا تصالح‘
منذ نكبة عام 1948، وعبر الأجيال لم نرضَ أن ننطق بهذا الاسم الذي يرتبط بكل ما هو شر وظلم “إسرائيل”. كانت قصيدة لا تصالح للشاعر أمل دنقل هي الرد الحاضر المعبر عن انفعالاتنا وتجمعاتنا على ما يجري من ظلم وجرائم ضد الشعب الفلسطيني وشعوب أخرى أصابتها أضرار جسيمة في الأرواح والموارد منذ تشكل هذا الكيان. كنا في هذا نؤكد أن الأمر ليس في ’ لا نصالح‘ فحسب، بل أبدًا لا نعترف بهذا النموذج الاستعماري.

صحوة تأييد:
بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول وصحوة المقاومة المشروعة والمطلوبة والمنتظرة دائمًا لتحرير الأرض من الاستعمار والاحتلال، أصبحت مقولة لا تعترف ماثلة في مشاهد كثيرة على مستوى العالم، زاد عدد من لا يعترفون بهذا الكيان المحتل، وعاد خطاب الحق والعدل ليترجم موقف عدم الاعتراف إلى فلسطين حرة من البحر إلى النهر، وتحيا فلسطين، والحرية لفلسطين، وغيرها من مظاهر مبهرة وملهمة في إظهار التضامن من شعوب العالم وحركاته الاجتماعية المؤثرة في الشوارع والجامعات والمناسبات الفنية والإعلامية، مع شعب يتعرض لإبادة جماعية.
لم تتوقف مظاهر التضامن عند هذا المستوى الباعث على الأمل في الشعوب عوضًا عن الحكومات، وفي المقاومة بدلًا من التسليم الانهزامي، بل امتدت لتشهد صحوة للذاكرة عما نُشر وسُجل من شهادات وكتابات تشرح أكاذيب الحركة الصهيونية منذ قدوم عصاباتها المسلحة إلى أرض فلسطين. وكلمة عصابات هنا ليست مجازية بل واقعية بمسميات رسمية في مراجع تاريخية وسياسية إسرائيلية ودولية أزيحت عنها السرية منذ تسعينات القرن الماضي.
تنتعش الذاكرة في هذا السياق لنستدعي إسهامات المؤرخين الإسرائيليين الجدد، وما قدموه من كتابات تمثل مراجع مهمة لكل من يريد أن يفهم حقيقة الاحتلال وأكاذيبه، وكيف أن المقاومة هي السبيل الوحيد للتعامل مع المحتل واسترداد حقوق الأرض وحق العودة لجميع اللاجئين الفلسطينيين والمطالبة بجبر الضرر على جميع الجرائم التي ارتكبتها حركة الاحتلال الصهيوني على مدى أكثر من قرن، بدأت بوعد بلفور 1917، وتبلورت بالطبع مع حرب 48. مقاومة مشروعة حتى في نظر أبناء دولة الاحتلال نفسها: إذ رأينا كيف أن رئيس الشاباك السابق عامي أيالون قد أشاد بالمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي في حوار له مع محطة ABC الأمريكية ليقول: ’ لو كنت فلسطينيًا واستولى أحدهم على أرضي فسأقاتله بلا حدود‘.


شهدت تسعينيات القرن الماضي كتابات موضوعية، وموثقة كانت نتاج حركة المؤرخين الجدد التي أحيانًا ما يطلق عليها ما بعد الصهيونية post Zionism، ويعد المؤرخ إيلان بابيه Ilan Pappe من بين أمهر المؤرخين الجدد في فضح جرائم التشكيلات الصهيونية المسلحة، وذلك بأعماله مثل: التطهير العرقي لفلسطين The Ethnic Cleansing of Palestine عام 2006، والشرق الأوسط الحديث The Modern Middle Eastعام 2005، وتاريخ لفلسطين الحديثة أرض واحدة وشعبان A History of Modern Palestine: One Land, Two Peoples، عام 2003، وكتاب عشر خرافات عن إسرائيل  Ten Myths about Israel، عام 2007، مع أحدث كتاب له هذا العام في شهر يوليو/تموز عام 2024 بعنوان اللوبي الداعم للصهيونية على جانبي الأطلسي Lobbying for Zionism on Both Sides of Atlantic.


قدم بابيه وزملاؤه من حركة ما بعد الصهيونية حقائق تاريخية مهمة، لا بد من تعميمها في برامج تثقيفية وتعليمية لشباب المنطقة برمتها. أساطير كثيرة قضى الكيان المحتل ما يزيد على سبعين سنة في استهلاكها وترويجها وإقناع العالم بها، رغم أن كل ما يظهر بالصورة والوثائق هو استخدامه السلاح في قتل وتشريد وطرد مئات الملايين من الفلسطينيين. على سبيل المثال، في كتابه فكرة إسرائيل the Idea of Israel، يشرح إيلان بابيه حبكة الكذب والترويج للأساطير الاستعمارية، موضحًا أن كل من شارك في جرائم القتل والتطهير العرقي كانوا على درجة من التعليم وتحقيق الدرجات العلمية تجعلهم يضعون مخطوطات تنشر على نطاق واسع توثق تجربتهم أمام العالم أجمع. ’ثعالب ش مشون Samson’s Foxes، التي لعبت دورًا نشطًا في التطهير العرقي أثناء الحرب في فلسطين. وفي مخطوط وضعه أثناء القتال، بعنوان في حقول الفلسطينيين – 1948 In the Fields of the Philistines – 1948، لخص هيلموت أوسترمان Helmut Osterman تجربته في الحرب وأصبح على الفور من أكثر الكتب مبيعًا التي تفضح جرائم عصابات الصهيونية آنذاك.
من ضمن الأساطير أيضًا التي نفذت على رقاب الملايين باستخدام السلاح والعمليات الإرهابية من العصابات الصهيونية أن إسرائيل كانت ملاذًا للشتات اليهودي. ترى هل حققت فكرة إسرائيل كدولة ما كان يفتقده اليهود من استقرار بعد تيه وشتات ونفي واغتراب؟
يشرح لنا بابيه أيضًا في كتاب فكرة إسرائيل الأسس الحقيقة التي قام عليها المجتمع الإسرائيلي من تمييز وعنصرية أولًا ضد العرب والفلسطينيين أصحاب الأرض وثانيًا ضد اليهود الشرقيين، حيث مهدت آلة الدعاية الإسرائيلية جيدًا لجلب اليهود الشرقيين من البلدان العربية، ساعدها تنامي مد القومية العربية في بعض الحالات، مما جعل الكيان المحتل يسعى جاهدًا للتكريس لفكرة أرض اليهود فقط، ولو بعدد كبير من اليهود الشرقيين والأفارقة خوفًا من التركيبة الديموغرافية التي تأتي بالطبع في صالح أصحاب الأرض الأصليين.


لم نسمع عن احتلال خرج طواعية من بلاد احتلها. لم يكتب التاريخ شيئًا عن إزالة العدوان دون مقاومة. قد تتغير أشكال المقاومة حسب الزمان والمكان. لكن أن تستمر جرائم نهب الأرض وقتل الأطفال، بل والإبادة الجماعية، أمام جميع القوى والمؤسسات الدولية دون رادع، فهذا ما يدعونا إلى وقفة تخص نظرتنا لأشكال المقاومة وعدم الوقوع في فخ التصنيفات الإيديولوجية التي يستخدمها المحتل لتفريق الشعوب وتفتيت عضد المقاومة المحتملة. على خلفية الخروقات التي نفذها المحتل لجميع القرارات التي صدرت من الأمم المتحدة حول حقوق الشعب الفلسطيني لا نملك سوى دعم سبل المقاومة في الداخل والخارج، ومطالبة حكومات المنطقة أن تفرد مساحة لائقة من البرامج الثقافية والاجتماعية لتوعية شبابنا حول تاريخ المحتل وجرائمه، وذلك بعيدًا عن مشروع فاشل ومسيء لتاريخ الإنسانية ولشهداء بالآلاف اسمه مشروع التطبيع.
من الضروري تخصيص برامج ثقافية وتربوية عن حقيقة الحركة الصهيونية ومسارها التاريخي وركائز فاعليتها، لا سيما اللوبي الصهيوني العابر للأطلنطي، وهذا أضعف الإيمان.
من الضروري أيضًا التأكيد على أهمية دراسة التاريخ والجغرافيا، في مقابل الدعاوى السطحية التي تفوه بها البعض مؤخرًا عن ضرورة إلغاء هذه المواد من المناهج الدراسية. المطلوب هو تغيير نهج التدريس وطرقه لتكون مواكبة لضرورات الحياة اليومية ومتابعة الأحداث بأذهان واعية لا مغيبة. وهذا بالطبع سيزيل اللغط الدائر والاتهامات المتبادلة بين من يدعم المقاومة، ومن يرى أنها تضر بالصالح الوطني. الانهزامية تأتي دائمًا من الضعف والخوف. لذا لا يجب أن نترك أجيالنا الحالية والقادمة نهبًا للانهزامية.
“لست مهزومًا ما دمت تقاوم”.
ربيع وهبه
باحث ومترجم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *