شيماء الريس تكتب: العدالة الانتقالية والمصالحة: هل الحوار الوطني كافٍ؟
منذ ثورة يناير 2011 وما تلاها من أحداث، خاصةً بعد 30 يونيو 2013، وما شهدته البلاد من توترات وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أصبحت الحاجة لتحقيق عدالة انتقالية حقيقية في مصر أكثر إلحاحًا. لا يمكن الحديث عن مصالحة أو تجاوز الانتهاكات إذا لم يكن هناك جدية في معالجة جذور المشكلة. ما يجعل “الحوار الوطني” الحالي مجرد مكلمة فارغة هو افتقاده للأسس الضرورية لتحقيق العدالة، فهو يتجاهل الخطوة الأولى والأهم: التوقف الفوري عن الانتهاكات الجارية.
أي حديث عن المصالحة دون إنهاء الانتهاكات المستمرة مثل الاعتقال التعسفي، التعذيب، والاختفاء القسري لضحايا جدد، هو ببساطة محاولة لتزيين الواقع دون معالجة الجروح الحقيقية. لذا، يمكن اعتبار “الحوار الوطني” الذي يُطرح حاليًا على الساحة كتورتة فاسدة تُقدَّم بمظهر جذاب، ولكنها من الداخل غير صالحة ولن تُثمر عن نتائج ملموسة.
كيف نمنح فرصًا ثانية؟
الحديث عن العدالة والمسامحة لا يقتصر على مؤسسات الدولة فقط، بل يمتد إلى العلاقات الشخصية. السؤال هنا: كيف يمكننا دعم المخطئين في حياتنا؟ وكيف نحقق التوازن بين نصرة الحق والحفاظ على علاقاتنا مع الأصدقاء والأقارب؟ وهل هناك أخطاء لا يمكن مسامحة مرتكبيها؟ تتباين الأخطاء البشرية بين المحسوبية، استغلال النفوذ، التحرش، وحتى الجرائم الكبرى مثل القتل. هذه الأسئلة تدفعنا للتفكير في مدى قدرتنا على العفو، ومتى يصبح العقاب ضروريًا.
العدالة التصالحية: نحو شفاء المجتمع
العدالة التصالحية ليست مجرد عقوبة للمخطئين، بل هي عملية تهدف إلى معالجة الأضرار التي تسببت بها الجرائم من خلال حوار بين جميع الأطراف المتضررة. هذا المفهوم يركز على أن الجريمة تؤذي، والعدل يشفي. بدلاً من الاقتصار على العقوبات القانونية، تقدم العدالة التصالحية حلولًا توافقية تعوض الضحايا وتعيد بناء العلاقات. هذا النوع من العدالة يعزز التوازن بين حقوق الضحايا، المجتمع، والمخطئين.
لكن على أرض الواقع، أي عملية مصالحة تحتاج أولًا إلى وقف الانتهاكات الجارية. في مصر، نحن بحاجة ماسة إلى تطبيق العدالة التصالحية كخطوة نحو تحقيق العدالة الانتقالية. ومع ذلك، طالما الانتهاكات مستمرة، فإن أي محاولة للحوار والمصالحة ستظل غير جدية ولن تحقق نتائج حقيقية.
لماذا نحتاج إلى العدالة الانتقالية؟
العدالة الانتقالية أصبحت ضرورة منذ ثورة يناير وما تلاها من أحداث في 30 يونيو، حيث شهدت مصر انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان على مدى السنوات التي تلت تلك الفترة. هذا النوع من العدالة يهدف إلى معالجة انتهاكات الماضي وإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة. يمكننا الاستفادة من تجارب دول أخرى، مثل جنوب إفريقيا، التي نجحت في تحقيق المصالحة الوطنية بعد عقود من الفصل العنصري. من خلال لجان الحقيقة والمصالحة، استطاعت جنوب إفريقيا معالجة الجروح العميقة التي خلفها النظام السابق.
في مصر، نحتاج إلى مسار مشابه، حيث نعمل على بناء آليات للعدالة الانتقالية تعترف بالجرائم وتقدم تعويضات للضحايا، مع محاسبة مرتكبي الانتهاكات. لكن كما ذكرت سابقًا، لا يمكننا البدء في هذا المسار دون إيقاف الانتهاكات الجارية. التوقف عن الاعتقالات التعسفية، التعذيب، والاختفاء القسري لضحايا جدد هو خطوة أولى وأساسية. بعدها، يمكننا البدء في معالجة الجروح التي خلفها الماضي وفتح صفحة جديدة نحو المصالحة.
كيف نتمرن على العدالة الانتقالية في حياتنا الشخصية؟
رغم أن العدالة الانتقالية تتعلق بالمجتمعات والدول، إلا أن بإمكاننا التمرن على هذا المفهوم في حياتنا اليومية. في علاقاتنا الشخصية والمهنية، يمكننا البدء بممارسة العدالة التصالحية من خلال حل النزاعات بطريقة تعيد بناء العلاقات بدلاً من تدميرها. عندما نرتكب أخطاء أو نشهد على أخطاء الآخرين، يجب علينا أن نعترف بها، ونسعى لإصلاح الضرر بدلًا من الاكتفاء بالعقاب.
من خلال تبني هذه الممارسات، يمكننا التحضير لتطبيق العدالة الانتقالية على مستوى أوسع، في مجتمعاتنا ومؤسساتنا، وحتى على مستوى الدولة. كلما تمرنّا على هذه المبادئ في المساحات الصغيرة، أصبحنا أكثر قدرة على تحقيق العدالة الحقيقية في المستقبل.:
خاتمة: الحوار الوطني بين الواقع والمأمول
في ظل هذه الحقائق، يصبح من الواضح أن أي “حوار وطني” لا يستند إلى خطوات حقيقية نحو إيقاف الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم الماضية لن يُثمر عن نتائج حقيقية. الحوار الذي لا يعالج جذور الأزمة ويفشل في بناء أسس العدالة الانتقالية هو حوار فارغ، مجرد “مكلمة” تهدف إلى تلميع صورة النظام دون تقديم حلول فعلية.
إذا كنا جادين حقًا في تحقيق المصالحة وبناء مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا، فإننا بحاجة إلى حوار حقيقي، قائم على وقف الانتهاكات والتعذيب والاعتقالات غير القانونية، ثم فتح الباب أمام آليات العدالة الانتقالية. حتى ذلك الحين، سيظل الحوار الوطني تورتة فاسدة، تُقدَّم بلا طعم أو فائدة حقيقية بل وتسمم متناوليها.