راجي مهدي يكتب: مأزق التنوير في مصر
يمكن الحديث عن حركة تنوير أوروبية منذ القرن السابع عشر، حيث سادت الدعوات للعقلنة والتخلص من ظل الكنيسة الثقيل على العقل الأوروبي مع التبلور النهائي للبرجوازية الأوروبية وتقويض حكم الإقطاع في أوروبا، وهو الحكم الذي أبقى الفلاحين في حالة عزلة تامة محصورة في إطار المقاطعات مستعيناً بهيمنة واسعة للكنيسة.
على الطرف المقابل، يمكن الحديث عن أول محاولة تنويرية في مصر مع بدايات القرن التاسع عشر حين استقل محمد على بحكم مصر بعد سنوات من الظلام العثماني التي أقفرتها وحرمتها من تكوين نخبتها في كافة الميادين، فابتعث محمد على إلى أوروبا وتحديداً فرنسا عناصر لتلقي أحدث العلوم في كافة المجالات كي يعتمد عليها في بناء مشروعه الخاص في مصر.
بعد تفكك مشروع محمد على، كانت الموجة الجديدة للتنوير في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على أيدي عناصر من الشوام والمصريين والتي بزغ فيها أسماء مثل شبلي شميل وفرح أنطون ومحمد عبده، غير أن تلك الموجة اصطدمت بالهيمنة الثقيلة للاحتلال الإنجليزي والسراي ورسوخ سلطة ملاك الأراضي الذين حجزوا السواد الأعظم من المصريين وهم الفلاحين خلف أسوار عالية من الفقر والبؤس.
وبينما كانت البرجوازية الأوروبية هي الحامل الاجتماعي للتنوير في أوروبا لحاجتها لتحرير الأيدي العاملة من القمقم الإقطاعي ولحاجات التطوير الصناعي التي تقتضي إطلاق العنان للعقل البشري، فإن الاستعمار المتعاقب لمصر لم تكن له مصلحة في تنوير البلد لأنه لم يكن ذا مصلحة في تصنيعها باعتبار أن تصنيع مصر يعني منافسة لبضائعه في السوق المصرية، ويعني تقويض الاقتصاد الزراعي المصري الذي يمد الصناعة الاستعمارية بموادها الخام، وبالتالي لم تتبلور برجوازية مصرية – صناعية تحديداً – بينما عرفت البلاد الملكية الخاصة للأرض الزراعية مع نهايات حكم الخديوي إسماعيل، فكانت طبقة كبار ملاك الأراضي هي التي تحالفت مع الاستعمار الإنجليزي على ضرب الثورة العرابية وترسيخ تحالف السراي – الاستعمار – ملاك الأراضي.
يمكن الحديث عن موجة تنوير تالية عززها نشاط الجاليات الأجنبية في مصر في نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، حين كانت الفاشية تدق طبول الحرب في أوروبا، ومع صعود نجم الماركسية بما هي فلسفة عقلانية، نشطت تلك الجاليات -التي رأت الكثير من عناصرها في الشيوعية خصم الفاشية الأبرز- في حركة ترجمة واسعة للعلوم الاجتماعية والديمقراطية وتجمعت حولها بعض الوجوه التي صارت بعد ذلك بعقدين أو ثلاثة أهم أبرز وجوه الثقافة وعلم الاجتماع في مصر. اتسمت تلك الموجة لأول مرة في تاريخ التنوير المصري بانحيازها للطبقات الشعبية وكان هذا في جزء منه تعبير عن تهالك البرجوازية المصرية وعدم قدرتها على العمل كرافعة لمشروع حداثة يحرر قوى الإنتاج من إطارها البرجوازي التابع المتخلف، عدم قدرتها وغياب المصلحة في ذلك. وبالتالي كانت إزاحة مشروع التنوير إلى أسفل، إلى الطبقات صاحبة المصلحة في فتح أوسع الآفاق أمام العقل المصري للتحرر من أفكار العصور الوسطى المثالية الميتافيزيقية، وكان رواد هذا المشروع هم عناصر من البرجوازية الصغيرة المصرية التي تأثرت بالماركسية ورؤيتها المادية للعالم وسعيها لتحرير وعي الجماهير الشعبية من سطوة الخرافة وسلطتها ومفهومها المتقدم عن الديمقراطية الشعبية وتحرير المرأة وربطها تحرر الإنسان من الفقر بتحرره الفكري أي شهدت تلك الفترة تبلور مفهوم مادي للتنوير. باستيلاء الضباط الأحرار على الحكم بدأوا بهندسة نخبة ثقافية ليست انعكاساً لاحتياجات المجتمع المصري بل صدى صوت لمسار حكم يوليو وقفزات عبدالناصر الأيديولوجية، فصار التنوير انتقائياً ونخبوياً فيما يشبه التوجيه المعنوي باعتبار أن مشروع عبدالناصر كان يتطلب ولاءً وحشداً من جماهير لا تعي بالقدر الكافي، صار التنوير خاضعاً للسياسة وفي خدمتها، ومن ضمن الخدمات التي قدمتها تلك النخبة المفبركة كانت مزاحمة اليسار في الحقل الثقافي الذي كان فاعلاً شبه مطلق فيه. مع اتساع التعليم المجاني في جميع مراحله وبداية تبلور قطاع صناعي مصري شبه مستقل وتحرير قطاعات كبيرة من سكان الريف، شهد المجتمع المصري قفزة ثقافية بلغت ذروتها في 1967، وهي ذروة لم تكن خارجة بالطبع عن سيطرة النظام.
بهزيمة المشروع الناصري في يونيو 1967، اجتاحت مصر موجة عاتية من الردة، غذاها النظام الذي راح يبحث عن مسكنات في مواجهة بحث الجماهير عن أجوبة، استكمل السادات الخط بإطلاق التيار الإسلامي في الشارع وفي فضاء الفكر لمواجهة تيارات العقلانية النقدية وعلى رأسها الماركسيين.
🛑 ما هو التنوير؟
التنوير مفهوم فضفاض، وهو مفهوم طبقي وتاريخي بامتياز، على عكس الوهم السائد بأن التنوير مفهوم محايد ومجرد، لم يكن التنوير أبداً سوى استجابة تاريخية لشروط محددة حكمت مضمونه وحدوده. لكن إذا أردنا تقديم تعريف مبسط، فإن التنوير هو نشر العقلنة، والعقلنة هي إدراك الضرورة. التنوير هو كسر الحواجز التي تحد العقل البشري، وإطلاقه من أسر الميتافيزيقيا والمثالية. إن إدراك العقل لأسباب حالة مرضية كالطاعون الذي كان يفتك بالبشرية في العصور الوسطى هو فعل تنويري، حرر البشر من فكرة خاطئة تقول أن هذا الموت الجماعي غضبة من الطبيعي، وكلما سادت تلك الطريقة في التفكير بخصوص الظواهر، أي علمنتها وعقلنتها، كلما أمكن الحديث عن مد تنويري، غير أن تلك الحدود الواضحة في إطار العلوم الطبيعية تصبح مبهمة وشديدة الغموض في إطار علم الاجتماع، إن مواجهة فكرة خاطئة عن سبب اشتعال الحرب بين قطبين استعماريين كلفت كثيراً من الوقت والعناء، وسيادتها غير نهائية بمعنى أنه أتت أجيال لم تشهد الحرب لتبرر اقتتال قطبين استعماريين بمقتل شخص من طرف على أيدي شخص في الطرف الآخر. إن كل وجهة نظر في العلوم الاجتماعية إنما تخدم في النهاية مصالح مادية لطرف من الأطراف، فتمويه الجذر الحقيقي للظاهرة يساهم في تأبيدها، ووعي الناس بالأسباب العلمية للظاهرة هو خطوة جبارة في سبيل مواجهتها.
🛑 مأزق التنوير في مصر؟
يواجه التنوير في مصر جملة من المشكلات التي تفرغه من مضمونه، أو تحوله إلى تعتيم أو تنوير معكوس، أحد المعضلات التي واجهت الثقافة المصرية هي هيمنة الإسلام السياسي على الشارع، فعلى مدار 90 عاماً كان الإخوان المسلمون وتفرعاتهم التالية هم اللاعب الأساسي في الشارع المصري، ليس فقط سياسياً بل فكرياً، من خلال انتشارهم في المؤسسات الدينية القاعدية كالزوايا والمساجد استطاعوا بناء حائل ضخم في مواجهة كل فكرة تقدمية، واستخدموا الدين بتفسيرهم لخلق حالة من التحصين السياسي ضد العلمنة والتنوير، في إطار بناء مشروع سياسي متكامل ينقل حيز الصراع شكلاً من الطبقي إلى الديني، بين القلة الناجية والمجتمع الجاهلي. إن الفكرة تبدو شديدة البساطة والتهافت إلا أنها ظلت عصية على الفهم وخلقت إشكالية لليسار كما للتيار الثقافي الليبرالي الذي لطالما كان يحلم ببناء مجتمع حريات ليبرالي على الطراز الأوروبي. وبينما فشل اليسار في مقارعة الإسلاميين في الشارع، وفي وعي الناس، وظل خطابه محصوراً في إطار النخب التي تتعاطاه، فإن قطاعات منه قد انتقلت إلى الأرضية الليبرالية لتقارع الإسلاميين منها. غير أن فشل الليبراليين في ترسيخ خطاب الحداثة وقضم بعضاً من أرضية الإسلام السياسي كان أكثر من مجرد فشل، لقد كان معبراً عن طبيعة مشروع التنوير المصري، وعن حدود هذا المشروع.
لم يرتبط مشروع التنوير المصري بقوى اجتماعية حية، هذا إن تجاوزنا عن حقيقة أن دعوات التنوير لم تتبلور في مشروع، بل كان محكوماً بعلاقة المثقف بالسلطة، والسلطة هي سلطة طبقية دوماً، وهذا يترتب عليه جملة من الترتيبات أهمها أنه بما أن السلطة في مصر منذ انكسار يسار بيروقراطية الدولة الناصرية هي سلطة معبرة عن خليط من برجوازية المقاولات والتوكيلات الأجنبية المتداخلة تماماً مع برجوازية مالية وهؤلاء جميعاً مع البرجوازية البيروقراطية يمثلون خليطاً محافظاً على المستوى التاريخي، فإن هذه السلطة تخلق انعكاساً ثقافياً يلائمها. هذا الانعكاس الثقافي لا يمكنه في خوض معركة التنوير أن يكشف بنفسه عن معاداة هذا الخليط الطبقي لمشروع تنوير جاد، لأن هذا المشروع التنويري لا يمكنه النفاذ من تحت حكم سلطوي، بغية الوصول لأوسع الشرائح الشعبية وهي مجال النزال الرئيسي، إن ألف عام من الجدال الفكري الفوقي النخبوي مع الإسلام السياسي لن يخدم سوى الإسلام السياسي نفسه، فهذا الجدال الفكري يمكن استثماره جيداً لصالح ترسيخ مواقع الإسلام السياسي، الفكرة تُهزم بممارسة فكرة نقيضة، لا بترديد فكرة نقيضة مهما كانت منطقية، وهذه الممارسة ابنة الشارع، والشارع مغلق بينما دور العبادة مفتوحة حيث يمارس الإسلام السياسي هيمنته الكاملة. المدخل لعقل الناس هو وجدانهم، وهذا الوجدان لا يمكن الوصول إليه سوى من مدخل المصالح المادية المباشرة، وهذه المصالح بدورها لا يمكن أن يمثلها مثقف تحتضنه السلطة، وهكذا. لا يمكن لمشروع تنوير أن ينمو في أحضان سلطة معادية للتنوير، لأن التنوير الذي كان راية البرجوازية في طور صعودها، تطور بتطورها وصار هو التجسيد الحرفي لهلاكها.
إن وعي قواعد الإخوان في القرى والنجوع هو وعي مزيف بمصالحهم، وهذا لا يقارَع عبر الندوات في الفنادق الفخمة، بل بمشروع كامل لا يمكن فيه انتقاء خصم وتحييد آخر، والخصم الرئيسي المعادي للتنوير هو برجوازية بلد طرفي تابع ليس أخطر على برجوازيته من ترسيخ العقلنة، وهذه العقلنة هي مؤسسة ثقافية نقيضة للمؤسسة الثقافية المهيمنة، تحلل خطاب التخلف في ارتباطه بالقوى الطبقية التي ترسخه. وهذا يستدعي تعريف التخلف، لا بممارساته الشكلية، بل في جذوره، سيادة الاقتصاد الخدمي والتجاري وكافة الأنشطة الطفيلية التي من مصلحتها خلق وعي جماهيري متخلف ومحتجز وإبقاء الأيدي العاملة في وضع متدهور بما يخدم تدني مستوى أجورها ووجود وفرة عرض دائمة تبقيها رهن مقتضيات خفض كلفة الإنتاج. إن التفكير العلمي لا يهبط من أفواه التنويريين على رؤوس العامة، إنه استجابة لشروط موضوعية تتطلب علمنة المجتمع، في مواجهة خطاب الإخوان، والتشدد الكنسي، وكل خطاب منافي للعقل أي ينفي وعي الضرورة.
وبالتالي فإن رأس حربة أي مشروع تنوير لابد أن يكون سيادة التحليل المادي لتخلف المجتمع، المطالبة بحق العمل والتوظيف، الديمقراطية وحرية التنظيم، التصنيع على جثة الاقتصاد الطفيلي، حق النشر والدعاية، افتتاح المكتبات الشعبية في القرى وتنشيط الدور الثقافي لمراكز الشباب. هذا ما يسمى بمقرطة المجتمع المصري، لكن حمَلة لواء التنوير يراوحون في مكانهم، في المربع المحدد مسبقاً، بما يخدم حصرا ًلا قضية التنوير بل قضية تأبيد سلطة البرجوازية.