د. محمد نعمان نوفل يكتب: التعويم الحر للجنية الحزين
القراءة الخاطئة لمشكلة الاقتصاد المصري هي ما أدت بنا إلى هذا الوضع المأساوي المولد للمزيد من الأزمات. لقد تسمرت الرؤية غير العلمية للمشكلة عند حدود المعروض من العملات الصعبة وتم تلخيصها في مشكلة توافر الدولار. لم نرى في اقتصاد في العالم أن مشكلته تتحدد في توافر الدولار. لأن هذه المشكلة ليست غير عارض لمشكلات أخرى أعمق بكثير، ولكن إدارة الاقتصاد بطريقة سطحية ويومية بغض النظر عما يحدث غدا لابد أن تقود لمثل هذا الفهم المغلوط والمعالجة الزائفة.
من يديرون السياسة الاقتصادية وجدوا نقصا حادا في المعروض من الدولار في مواجهة طلب واسع على الدولار. فدفعهم ضيق الأفق إلى أن مشكلة الاقتصاد المصري هي نقص الدولار أو موارد العملات الصعبة فكانت سلسة الحلول العاجزة والتي تمحورت حول الاقتراض وتخفيض قيمة العملة.
لم يفكر من يديروا السياسة الاقتصادية أن هناك إنتاج، ينتج سلعا للتصدير تدر عملات صعبة وتوفر إحتياجات السوق المحلي فتخفض الطلب على العملات الصعبة فيتحقق وفره في أرصدتها. وإذا فتحنا ملف الإنتاج الغائب عن أذهانهم سوف يترتب الكثير من الفوائد الاقتصادية التي لم يفكروا بها.
إن صياغة أداء الاقتصاد المصري كاقتصاد ريعي وصلت بنا لهذا الوضع المتعثر، لان مصادر الريع المصري لا تتعدى رسوم المرور في قناة السويس وإيرادات السياحة في منطقة ذاخرة بالاضطرابات السياسية والعسكرية، وعائد عرق العاملين بالخارج. ليس لدينا موارد بترولية أو غازية كبيرة يمكن الاعتماد عليها، وكما نرى موارد الريوع المصرية غير مستقرة ولا تحقق وفرا حقيقيا. في مقابل ذلك أنفلات في الإنفاق الحكومي على البنية الأساسية والأبنية المظهرية، ونمط ترفي في الانفاق الحكومي يسنده نهم غير مفهوم في الاستدانة سواء من المصارف المحلية أو الاقتراض الخارجي.
هذه السياسة العبثية وصلت بنا إلى ما نحن فيه اليوم وأوقعتنا تحت رحمة صندوق النقد الدولي كي يطبق علينا برنامجه الذي لم يتغير منذ عام 1955 وأهم ما فيه تخفيض قيمة العملة الوطنية أو تحريرها بالكامل وهذا ما حققه أخيرا في مصر.
أولى ثمار التحرير الكامل للجنية المصري تخفيض قيمته 60% وهذا التخفيض ينسحب على تخفيض العملة في تقييم الضرائب الجمركية أيضا، إي زيادة مفاجئة في قيمة الرسوم الجمركية 60%. في نفس الوقت يدعو الصندوق إلى السيطرة على التضخم، وكذلك البنك المركزي المصري يؤكد على أستهداف نسبة 7% للتضخم. كيف يمكن الوصول إلى هذا وقد انخفض الجنية 60% مع ما لهذا التخفيض من مضاعفاته في السوق المصري، إنه العبث.
حتى يتحقق التعويم الكامل يشجع صندوق النقد على زيادة سعر الفائد بنسبة 6%، ومنذ شهرين زادت 2% أي خلال عام 2024 زادت الفائدة بنسبة 8% فأصبح سعر فائدة الإقراض للبنك المركزي يدور حول 30%، وسوف يكون أعلى من ذلك بالطبع في البنوك التجارية. في ظل وضع كهذا كيف يتحقق تشجيع القطاع الخاص على الدخول في النشاط الاقتصادي، هل لدى الحكومة أو الصندوق نشاط اقتصادي يدر عائد يصل إلى 45% حتى يدل القطاع الخاص عليه؟ وكيف يستقيم الحد من التضخم مع الارتفاع المتوقع في أسعار السلع أمام هذا الارتفاع الهائل للفائدة؟ هذا أيضا عبث.
الجنية المصري الحزين يدفع إلى ساحة التحرير الكامل ويترك تحديد قيمته لقوى السوق، وهو غير مسلح بقاعدة بيانات اقتصادية قوية قادرة على تبرير قيمته السوقية وحمايته من شائعات المضاربين. أي عمله تطرح للتداول الحر لابد أن تقف خلفها قائمة من المؤشرات الاقتصادية ذات المصداقية، وهي:
معدل النمو الربع سنوي للناتج المحلي الإجمالي – الأرقام القياسية الشهرية لأسعار الجملة وأسعار المستهلكين- نسبة التضخم الشهري- الرقم القياسي الربع سنوى للإنتاج الصناعي- الرقم القياسي الربع سنوي للإنتاج الزراعي- الرقم القياسي الربع سنوي لأسعار المباني- النسبة الشهرية أو الربع سنوية لمعدل البطالة- الرقم القياسي الشهري لنمو التجارة الداخلية- الرقم القياسي الشهري لنمو التجارة الخارجية- الرصيد الربع سنوي للميزان التجاري- الرصيد الربع سنوي لميزان المدفوعات- المؤشر الربع سنوي لرضاء المستهلكين – الانفاق الربع سنوي على الحماية الاجتماعية – النسبة السنوية للسكان تحت خط الفقر.
بعض هذه المؤشرات متوافر بالفعل في قاعدة البيانات الاقتصادية ولكن بدون الإصدار الدوري المطلوب، وبعضها غائب تماما عن قاعدة البيانات، وفوق كل هذا فقدان أغلب هذه المؤشرات إلى المصداقية.
يضاف إلى ما سبق ضرورة الشفافية الكاملة في عرض الصفقات الكبري التي تقوم بها الحكومة بصفتها اللاعب الرئيسي حتى الآن في النشاط الاقتصادي، وكذلك صفقات الاقتراض من السوق المحلي والخارجي ومبررات الاقتراض وكل ما يتعلق به من التزامات مالية.
أما القدر الحزين لهذا الجنية الحزين هو عدم شفافية مالية الدولة لدينا ميزانية وزارة المالية، وميزانيات 59 هيئة مستقلة، وأكثر من ثلاثة آلاف ميزانية للصناديق الخاصة وميزانيات الجهات السيادية. المعروف من كل هذه الميزانيات، ميزانية واحدة فقط هي ميزانية وزارة المالية. معلومات المالية العامة اي بيانات الإنفاق العام تعد أهم رافد لتقييم العملة الوطنية، لأنها أكبر كتلة مالية في الاقتصاد، وبياناتها غير متوفره بالكامل لدى الحكم على الجنية الحزين.
هذه الحزمة من المؤشرات الاقتصادية ضرورية لتوضيح ملامح الأداء الاقتصادي الذي يقف خلف قيمة العملة لأن قيمة العملة ناتج للأداء الاقتصادي أي عرض للاقتصاد وليست جوهر أزمته. عندما يتأزم الاقتصاد تتأزم العملة وقيمتها في حد ذاتها أحد مؤشرات الأزمة وليست هي الأزمة كما فهم القائمين على إدارة السياسة الاقتصادية، فأوقعونا فيما نحن فيه. من ناحية أخرى حزمة هذه المؤشرات المشار إليها تصنع سياج معلوماتي حول العمله وتحميها من أثر شائعات المضاربين، والمخاطر الناجمة عن إفتراضات التحوط المستقبلي بشأن قيمة الجنية حيث تلعب فروض التحوط المتشائمة ( سواء بحسن نيه أو سوء نيه) دورا تدميريا لقيمة العملة ويحفز المضاربة السلبية عليها.
توافر المؤشرات الاقتصادية ذات المصداقية ونشدد على مصداقية المؤشرات وشفافيتها، له دور هام ليس فقط في حماية الجنية المصري، ولكن في حماية الاقتصاد الوطني لأن تحرير العملة بدون حماية معلوماتية سوف يصبح أحد منافذ استنزاف الاقتصاد الوطني. خاصة وأن الجنية المصري من العملات النادرة التي تعتمد على عملة تقييم وحيدة هي الدولار ولذا من السهولة تماما المضاربة عليه، فهو ليس محميا بسلة عملات قد تحميه جزئيا من المضاربة.
غير أن الجنية الحزين القى به إلى السوق الحر بلا أي دعم معلوماتي قوي، في عشوائية شديدة شأن كل الخطوات العشوائية في الإدارة الاقتصادية.