زياد العليمي يكتب: الإعلان عن ميلاد المستقبل بكتابة الدستور الجديد (الحلقة الأخيرة من سلسلة العدالة الانتقالية)
بعد جمع الأدلة على الجرائم، ومشاركة كل الضحايا فيها بهدف إدانة جلاديهم، وعقاب كل من ارتكب جريمة، يصبح كل من خارج السجون، إما مواطن صالح لم يرتكب من الجرائم ما يوجب معاقبته، أو مواطن ارتكب جرائم وسدد ضريبة جرائمه للمجتمع، وللضحايا. ويصبح الضحايا وذووهم معبر الثقة لجميع المواطنين في منظومة العدالة التي تقتص من كل من أجرم في حق شعبه، من دون انتهاك لحقوق المتهم نفسه. وهكذا، يتهيأ المجتمع لبدء مرحلة المصالحة، التي صارت سيئة الذكر في بلادنا، نتيجة إصرار المستفيدين من الوضع الحالي على إساءة استخدامها.
المصالحة، في برنامج العدالة الانتقالية، هي حالة يجد فيها المجتمع نفسه، من دون إجراءات محددة لها! فبعد معرفة حقيقة ما حدث خلال العهود السابقة، ومحاكمة كل من ارتكب جرائم جنائية وسياسية، وغلق الملف سواء بالاعتراف وطلب الصفح، أو بالتعويض، أو بالعقوبات السالبة للحرية أو العزل السياسي؛ تكون صفحة الماضي قد أغلقت تمامًا. يصبح المجتمع متصالحًا مع ما حدث، لا بقبوله، ولكن باستيعاب دروسه وضمان عدم تكراره. ويدرك الجميع ضرورة بناء دولة مؤسسات يصعب، من خلال قواعد إدارتها، تخيل تكرار جرائم الماضي مستقبلا.
إصلاح أخطاء وقصور الماضي أولا
بعد كشف كافة الحقائق المتعلقة بما كان يحدث في الماضي، عبر لجان الحقيقة وتقاريرها، تصبح كل مشكلات المجتمع واضحة أمام الجميع.
ويمكن تحليل هذه المعلومات بواسطة متخصصين، وبإشراف مفوضية العدالة الانتقالية، للوصول إلى حقيقة أداء مؤسسات الدولة المختلفة في الماضي، ولتحديد أوجه القصور، والفساد الهيكلي الذي وصلت إليه مؤسسات الدولة نتيجة سنوات الاستبداد والفساد.
وبالوصول إلى أوجه القصور، يمكن للخبراء، ومديري مؤسسات الدولة الجديدة، بالتعاون مع مفوضية العدالة الانتقالية، طرح بدائل هيكلة مؤسسات الدولة المختلفة، حتى تضمن عدم وجود ثغرات تؤدي لتكرار جرائم الماضي مرة أخرى.
فعل سبيل المثال سنجد مشكلات مثل وفاة مواطن لم يحصل على العلاج اللازم، لأنه لم يسدد رسوم دخول المؤسسات الطبية. نكتشف هنا الحاجة إلى تعديلات قانونية تجرم منع أي مواطن من العلاج تحت أي مبرر، كما نحتاج إلى تعديلات في هيكل التأمين الصحي لتغطي مظلته جميع المواطنين، وإلى منع أية علاقة مادية بين المواطن وبين المؤسسات الصحية التي تتلقى مقابل خدماتها من هيئة التأمين الصحي، بالإضافة إلى تعديلات في مناهج التعليم، ليعرف دارس الطب أن العلاج حق وليس سلعة.
وفيما يتعلق بالمؤسسات الأمنية التي كانت تعمل لصلح النظام، هناك تجارب دول مختلفة في كيفية إعادة الثقة بين المواطنين وتلك الأجهزة. يبدو أكثرها جذرية ما فعلته إيكاترينا زولادزة نائب وزير داخلية جورجيا عقب الثورة، وكانت تبلغ من العمر 27 عامًا، حين تولت عملية إعادة هيكلة المؤسسة الشرطية والتعليم الشرطي. وكان من أبرز خطواتها لإعادة الثقة بين المواطنين وجهاز الشرطة الذي مارس عمليات تعذيب واسعة في السابق، بناء مراكز الشرطة بحوائط زجاجية متينة، بحيث يكون كل مواطن رقيب على ما يحدث داخل تلك المؤسسات. ولخصت الوزيرة الرسالة التي أرادت إيصالها للشعب قائلة إن ”الشرطة جزء من المجتمعات المحلية، لا نريد أن يخاف الشرطي من الناس أو يخيفهم”!
وهناك إجراءات اتبعتها دول أخرى؛ مثل تثبيت كاميرات صغيرة في ملابس رجل الأمن لتسجيل كافة أفعاله خلال فترة عمله، وغيرها من الإجراءات التي تستهدف إعادة الثقة المفقودة بين مؤسسات الدولة والمواطن.
كتابة دستور جديد بعد هيكلة المؤسسات
بعد خمس سنوات من عمر ثورتنا، حكمت البلاد فيها بموجب دستورين وإعلانين دستوريين، بات واضحًا للجميع أن أي محاولة لكتابة دستور جديد، من دون هيكلة مؤسسات الدولة المنوط بها تطبيق قواعده، لن تساوي أكثر من مداد الحبر الذي كتبت به. فلا أحد يتصور أن نفس المؤسسات التي حكمت في الماضي، وتسببت في إفساد المجال العام، وزيادة الانتهاكات ضد المواطنين، بذات هياكلها وقواعدها، يمكن في العهد الجديد أن تطبق قواعد حاربت تطبيقها من قبل، وطوال الوقت.
وبالتالي لا يعقل كتابة الدستور قبل الوصول إلى تصور واضح لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وضبط العلاقة بينها وبين بعضها، لمنع تكرار جرائم الماضي، بحيث يتم تعديل المواد المتعلقة بتلك المؤسسات في الدستور الجديد.
وهذا لا يعني أن جهود كتابة دستور جديد للبلاد يجب أن تتوقف لحين انتهاء أعمال مفوضية العدالة الانتقالية، بالعكس، فنتائج لجان الحقيقة، يجب أن يتم بحثها، ومناقشة تلك اللجان في أسباب هذه الانتهاكات، وعقد جلسات حوار معها، ومع آخرين لاستطلاع رأيهم في كيفية القضاء عليها، وطريقة هيكلة مؤسسات الدولة بما يضمن تحقيق العدالة لكل المواطنين من دون تفرقة، وسد الثغرات التي يمكن استغلالها لإعادة ارتكاب جرائم الماضي.
في هذه المرحلة يتصالح المجتمع مع ما حدث من جرائم في الماضي، ويشعر كافة الضحايا وذويهم بأن ما حدث لم يمر دون حساب، ويطمأنون من خلال الممارسة العملية ومباشرة إجراءات جمع الأدلة بأنفسهم، ومتابعة إجراءات المحاكمات، إلى أن ما تم من حساب أقصى ما يمكن تحقيقه، وأن كافة المواطنين غير المحتجزين، إما صالحين أو أدوا ما عليهم من عقاب للمجتمع.
وفي المرحلة التالية سوف ينخرطون في عملية وضع قواعد الدولة الجديدة، ومتابعة أعمال وضع العقد الاجتماعي الجديد، والمشاركة فيها عبر النتائج التي خرجت بها لجان الحقيقة، والمناقشات التي شاركت فيها.
حينها، سوف يصبح الضحايا وذووهم أفضل من يطمئن جميع أفراد المجتمع إلى مؤسسات الدولة الجديدة، بعد صياغتها في عقد إجتماعي جديد، ليبدأ عهد الاستقرار اعتمادًا على دولة عادلة، وشعب أصبح مشاركًا وحيويًا، بعد أن عرف الجميع من خلال التجارب الشخصية، أن الاستبداد لا يجلب الاستقرار.