د. محمد مدحت مصطفى يكتب: النمط المصري للإنتاج (7- 11).. النمط الآسيوي
احتلت مقولة النمط الآسيوي للإنتاج أهمية خاصة عند عدد كبير من الباحثين الذين امتلكوا شجاعة الخروج عن النص، فقد اهتم هؤلاء الباحثون بدراسة نمط تطور عدد من المجتمعات الآسيوية، توصلوا من خلالها أن تلك المجتمعات سلكت في تطورها طريقاً مغايراً للطريق الذي سلكته مجتمعات أوربا، وأن السبب في ذلك يرجع إلى أنها عَرِفَتْ نمطاً خاصاً لإنتاجها أطلق عليه اسم (النمط الآسيوي للإنتاج)، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تكون جميع البلدان الآسيوية قد سلكت نفس الطريق، وفي نفس الوقت من الممكن أن نجد هذا النمط في بعض البلدان غير الآسيوية، أي أن اللفظ هنا (الآسيوي) لا يُشير إلى الموقع بقدر ما يُشير إلى تميز ذلك النمط.
وبشكل عام فإن السمة الرئيسية لهذا النمط تتمثل في التطور البطيء إلى حد يقرب من الركود.
يرتكز هذا النمط إلى أن علاقات الإنتاج فيه لا تتم بين الأفراد وبعضهم البعض كما هو الحال في الأنماط الثلاثة (العبودية، الإقطاعية، والرأسمالية)، بل تتم بين تجمعات إنسانية وبعضها البعض أُطلق عليها اسم (مُشترَكات). فعلاقات الإنتاج هنا تقوم بين مشتركات دنيا تُمثل تجمعات المنتجين المباشرين، مثل (المُشترَك القروي) في الريف، و(الطائفة الحرفية) في المدينة، وبين تجمع (المُشترَك الأعلى) الذي يُمثل (جهاز الدولة) أو سلطة المجتمع.
ونظراً للمهام الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي تتولاها الدولة في النظم الشرقية، فإن علاقة الإنتاج كانت ذات طابع مزدوج أو ذات وجهين: فمن خلال المُشترَك كان المُنتج يستفيد من إشراف الدولة ومهامها من جهة، وكان يُستغَل من جهة أخرى. وكان شيخ القرية يُمثلها إزاء السلطة المُستغِلة، ويُمثل هذه السُلطة في وجهه الثاني إزاء القرية.
لذلك فالمُشترَك هو النواة الاجتماعية التي تجعل الفرد عبداً عمومياً وليس عبداً فردياً لسيد فرد. وأن المجتمع بهذا الشكل يُصبح مكوناً من مُشترَكات بصورة شاملة، وليس هناك اعتبار للأفراد إلا من خلال وجودهم في المُشترَكات.
ولكن هل كان ذلك يعني عدم وجود أفراد يُستغلون كأفراد؟ الإجابة هنا تكون بنعم ولكن لم تكن هذه هي الصيغة الغالبة، بل كانت تُمثل الاستثناء النادر. وتجدر الإشارة إلى أن المجتمع في ظل أسلوب الإنتاج الآسيوي هو مجتمع استغلالي، وطبقي بالتالي على الرغم من عدم وجود المِلكية الخاصة للأرض، بل ومع وجود بعض المشاعيات. كما أن النظام الآسيوي يمثل مرحلة أرقى في التطور الاجتماعي التاريخي للبلدان التي عرفته، ولهذا السبب يطلق بعض المؤرخين على الدولة في ظله First class state أي الدولة الطبقية الأولى في إطار التطور التاريخي لبلدان الشرق.
ويُمكن إجمال خصائص هذا النمط في: نظام مركزي يأخذ شكلاً أكثر استبداداً- غياب المِلكية الخاصة بالأرض في أغلب الأحوال- جماعات قروية مكتفية ذاتياً، وضآلة الاقتصاد السلعي- نظام يتصف بالركود الطويل في عملية الانتقال التاريخي- الدولة هي المُسيطرة على الأرض، وتقوم بالمشاريع العامة بالجهود الجماعية- الاستغلال الحكومي، أي أن الدولة أو الطبقة الحاكمة تقوم بدور المُستغِل للمنتجين عن طريق تحصيل الريع وجباية الضرائب.
أما السِمات الخاصة بشيء من التفصيل فنجدها في مقال محمد نصر الله المنشور في مجلة آفاق عربية على النحو التالي:
السِمة الأولى: تعتبر الزراعة من أهم أنشطة الإنتاج في المجتمعات القديمة، وفي المجتمعات التي تعتمد على الري الاصطناعي وعلى إصلاح التربة يتطلب الأمر القيام بأشغال كبرى يعجز الأفراد عن تنفيذها بمفردهم بسبب ضخامتها وصعوبتها. هذا الأمر لم تعرفه أوربا الإقطاعية، حيث الزراعة المطرية، وحيث الفردية والتبعثر. من أجل تجاوز المجتمع القديم، شُيدَت فوق أنقاض المشاعات الأولية، جهازاً تنظيمياً كان بمثابة الشكل الأول لنشوء الدولة. وبهذه الخطوة انتقلت هذه المجتمعات إلى مجتمعات طبقية، وكانت الدولة فيها تُمثل المشاعية المُستغِلة للمشاعيات الأخرى.
إذن كانت تلك الخطوة تعتبر خطوة إلى الأمام لِما سبقها من وجهة نظر التقدم البشري بوجه عام. وكان شرط قيام هذا الأسلوب في الإنتاج هو التوصل إلى إنتاجية متفوقة تُؤمن فائضاً كبيراً للقيمة Surplus Value وهذا يُشابه النقلة التي حدثت في المجتمعات الأوربية الغربية إلى المرحلة الإقطاعية، فإذ كان الغرض هناك هو توفير فائض القيمة لمالكي وسائل الإنتاج الرئيسية (الأرض ـ العبيد) فإن الغرض بالنسبة لمجتمعات النمط الآسيوي تمثل بشكل كبير في تنفيذ المنشآت الكبرى لضمان شروط تجدد الإنتاج اللازمة للمجتمع.
السِمة الثانية: من أجل ضبط العملية الإنتاجية في ظل هذا الأسلوب كان لا بد أن تتولى الدولة مهمة التنظيم والإشراف Superintendence – Organization على العملية الإنتاجية الاقتصادية مما جعلها تتبوأ مركزاً مرموقاً، كما جعل من المركزية Centralization ، والاستبداد Despotism أهم صفتين من صفاتها. كان لاستحواذ الدولة على وسائل الإنتاج (الأرض والمياه) أن جعل القبول بمقولة الحاكم المُستبد تبدو معقولة، خاصة بعد تحالف الكهنة ورجال الدين مع هؤلاء الحكام، مما تسبب في وجود السُلطة الثيوقراطية في هذه الدول، وأمسى الملك أو الحاكم ابناً للإله الأكبر، أو نائبه على الأرض.
السِمة الثالثة: نتيجة لمِلكية الدولة للأرض (رغم وفرتها)، ونتيجة لقيامها بعملتي تنظيم الإنتاج وقيامها بالاستغلال في آن واحد (وجهان لعُملة واحدة). فقد ظهر منذ وقت مبكر التمييز بين مِلكية الأرض Ownership، وحيازتها Possession فمِلكية الأرض غير كاملة، وحرية التصرف كانت محدودة ومقيدة، بحيث لم يتمكن الأمير أو حاكم الإقليم أن يتصرف بهواه في الأرض المُقطعة له، لأن أصل رقبتها ظل في يد الدولة المركزية. ولكي تتمكن الدولة من استخلاص أكبر قدر من الفائض الاقتصادي (من الفلاحين والعاملين في طين الأرض) كان لا بد لها من خلق كادر وظيفي واسع يكون وسيطاً بين هؤلاء الفلاحين وبين الدولة، كل هذا أعطى الفرصة للبيروقراطية كي تظهر وتنمو وتنتعش في مثل هذه المجتمعات، مما أكسب تلك المجتمعات صفة الاستبداد الشرقي Oriental Desptism فصار هذا الاستبداد إحدى السِمات البارزة لهذا النمط.
السِمة الرابعة: كان لتدني مستوى الإنتاج، وسيادة اقتصاد الاكتفاء الذاتي، وضعف تقسيم العمل (الفصل بين الزراعة والحِرَفْ)، أن جعل الحياة بهذه المجتمعات تتصف بالسكون Static، حتى أنها تبدو وكأنها تُراوِح في مكانها، أو تتطور في شكل حلزوني، بدلاً من أن تتطور وتجتاز مرحلتها الإنتاجية إلى مراحل أعلى. على الرغم من أن بعض هذه البلدان تحقق لديها فائض ضخم أنفقته على العديد من المظاهر الحضارية التي لا يزال بعضها قائماً إلى اليوم.
السِمة الخامسة: في ظل هذا النمط كانت علاقة الفلاح (المُنتج المباشر) بالدولة (المالك) علاقة غير حرة تماماً، فقد كانت مقيدة بالتزامات وحقوق لصالح الجانب الأقوى وهو الدولة بالطبع. فقد كانت الالتزامات تتمثل في السُخرة والضرائب والخدمة العسكرية بينما كانت الحقوق تتمثل في الاحتفاظ بالحد الأدنى من فائض الإنتاج الذي يُمكّن هؤلاء الفلاحين من تجدد قوى الإنتاج. ورغم ما في هذه العلاقة من إجحاف بالفلاحين إلا أن هؤلاء كانوا بحاجة إلى دولة قوية ذات هيمنة مركزية تقدم الخدمات التي يعجز الفلاحون عن القيام بها منفردين. ومن هنا تتضح الازدواجية بين الاستغلال وبين الاتحاد الجماعي في العمل، أي التعاون بين المُستغلِين وبين المُستغلَين. وفي هذا النمط لا يبدو واضحاً أن الربح كان الهدف من العملية الإنتاجية، كما يبدو أن هناك قدرا كبيرا من التخطيط الاقتصادي على مستوى الدولة.
مع ملاحظة أن هذه المجتمعات لم تكن تخلو من وجود المِلكية الفردية للأرض ـ وإن لم تكن ظاهرة عامة ـ وعلى ذلك كانت هناك بعض العلاقات الإيجارية بين هؤلاء المُلاّك وبين الفلاحين، وإن لم ترتفع إلى المستوى الذي كانت عليه في أوربا.
السِمة السادسة: كانت التجارة الداخلية في تلك المجتمعات تقتصر على المبادلات البسيطة بين الريف والمدينة في السِلع التكميلية التي تحتاج فيها كل منها للأخرى، ولو أن الرصيد كان دائماً مديناً لصالح المدينة، لذلك كانت التجارة الداخلية تكاد تكون هامشية في ذلك النمط. أما التجارة الخارجية فقد كانت تخضع بالكامل تقريباً لسلطة الدولة، ويتركز نشاطها في المدن الكبرى والمواني حيث المخازن الكبرى، وبيروقراطية الدولة.
السِمة السابعة: توصم هذه المجتمعات بالركود منذ أن دخلت مرحلة انحطاط نمط الإنتاج الآسيوي. وقد يُمكن اعتبار أن العدالة والحرية والمساواة كانت موجودة بشكل نسبي في (المُشترَك القروي) المُكتفي ذاتياً من الناحية المعيشية، إلا أن المُشترَك برُمّته كان مُستغَلاً ومقهوراً تجاه الدولة ووكلائها. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الرِق في هذه المجتمعات كان موجوداً بشكل أو بآخر، ولكنه لم يرق إلى المُساهمة في العملية الإنتاجية، بل كان موجودا على هيئة الرِق الأبوي المُتمثل في خدمة البيوت.
كما أن هذا النمط لم يمنع الدولة من استخدام العبيد (أسرى الحروب في الأساس) في تنفيذ المشروعات الكبرى، وظلت الظاهرة العامة مُتمثلة في الوحدة الإنتاجية الجماعية للفلاحين أي (المُشترَك القروي). وهكذا نرى أن الصراع الطبقي الداخلي في تلك المجتمعات لم يرق إلى الحد الذي يُخرج هذه المجتمعات من ركودها، وظلت هذه المجتمعات على ركودها حتى جاء الاستعمار ليُخرجها من هذا الركود ويُدخلها في نظامه الرأسمالي الجديد وفقاً للشروط التي تحقق مصالحه هو في ذات الوقت.