حنان فكري تكتب: استغلال التحول الديني للمسيحيات.. بين حرية العقيدة والمكايدة الطائفية
جلسات النصح والإرشاد.. صمام الأمان الغائب فى تغيير العقيدة
ظهر على موقع “يوتيوب” مقطع مرئي، لإمرأة تبلغ من العمر 39 عاماً، تُدعى رانيا حليم عبد المسيح من محافظة المنوفية، تعلن فيه اشهار اسلامها، وتستغيث طالبة ان يتركها الجميع لأنها لن تعود إلى المسيحية، وبغض النظر عن المحتوى المبالغ فيه في “الفيديو” والمجتزء من الحقيقة -التي دائما يكون لها اكثر من وجه- بغض النظر عن كل هذا، وبالتأكيد على ايماني الكامل بحرية العقيدة مهما كانت، إلا أنني توقفت كثيراً امام عودة هذا النوع من التأجيج المتعمد لمشاعر الأقباط، والذى يحمل نوعاً من المكايدة التي يرفضها العقلاء، فماذا يربحه الإسلام أو تخسره المسيحية، من اشهار رانيا لاسلامها، فلا مسيحيتها تضيف إلى المسيحية، ولا اسلامها ينتقص منها، ولا إسلامها يضيف للاسلام، ولا عودتها للمسيحية تنتقص منه.
هذا النوع من مقاطع ” الفيديو” توقف منذ فترة طويلة، ليقفز الآن الى السطح مرة أخرى، فنجد إعلان رانيا، الذي تؤكد فيه انها تركت زوجها وبيتها بارادتها، وأشهرت اسلامها، رانيا طلبت حماية أمن الدولة من أنفسهم،- على حد تعبيرها- ولا أعلم ماذا يعني ذلك سوى انها تشكو أن اسرتها المسيحية، تحاول اعادتها عن طريق أمن الدولة، فيما تستغيث أسرتها أيضا وتؤكد انها مختطفة، وتطالب بتدخل امن الدولة!!
والدروايش “بغية الولولة”، ايضا يصرخون انها مختطفة، والذين يعتمدون ” السبوبة الطائفية ” فى حياتهم مصدراً للاسترزاق، على الجانبين المسيحي والاسلامي، يملأون مواقع التواصل الإجتماعي ضجيجاً، ولا أحد فيهم يفتش عن الحقيقة، الكل ينشر بيقيين مكتمل، رغم تضارب محتوى اليقين.
ولا أحد يفكر في الجرأة التي امتلكها من قام ببث الفيديو حتي يقدم على هذه الخطوة، التي أكاد اجزم انه يعلم تماماً، أن بث هذا الفيديو سوف يشعل الفتن الطائفية، لا أحد يسأل هل من اقدم علي بث الفيديو وتداوله بواعز داخلي، أم أنه يستند إلى من يحميه، وهل يحتمل المجتمع المصري حالياً هذا النوع من الفتن؟
ذكرتني قصة رانيا بقصة وفاء قسطنطين، فقبل خمسة عشر عاماً بل أكثر، اختفت امرأة كانت زوجة لكاهن من محافظة البحيرة، كانت وفاء قسطنطين تشكو من حياتها الأسرية، ارتبطت بزميل لها فى العمل وهربت معه، وكاد الوطن أن ينفجر، لانها اعلنت اشهار اسلامها، وتظاهر المسيحيون فى مقر الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وتضخمت نظرية المؤامرة التي رجحت انها مختطفة من أجل “كسر نفس” المسيحيين، لأنها زوجة كاهن، وفيما هي مرتبطة عاطفياً برجل آخر، اشتعل المجتمع كله، استناداً لنظرة المؤامرة ومبدأ الوصاية، وغيرها من المبادىء ثم عادت وفاء بقوة الأمن وتدخل الكنيسة، واختفت عنها العيون، واختفت معها جلسات النصح والإرشاد بقرار سلبي من حبيب العادلي وزير الداخلية فى نظام مبارك آنذاك، ومنذ ذلك الحين لم تنعقد جلسات النصح والإرشاد لمن يقدمون على تغيير عقيدتهم، وكأن القرار عقاباً أنزله العادلي على مسيحيي مصر، ليتطاير الشر فى كل مكان حال ظهور أية حالة اخرى، تلك الجلسات التي كانت بمثابة صمام أمان لتقنين عمليات التحول الديني وحل لكثير من الألغاز المرتبطة باختفاء المسيحيات، تلك الجلسات التي كانت بمثابة مهدىء موضعي لجانب من الاحتقان الطائفى بين المسلمين والمسيحيين، غابت وغاب معها الامل فى الالتفاف حول مائدة واحدة للتأكد من اساس كل واقعة، هل هى اختطاف، ام اغواء عاطفي – فى حالة القاصرات- ام تحول بنية خالصة فى حالة الراشدات.
وجلسات النصح والإرشاد، لمن لا يعرف هي جلسات كانت تعقد شهريًا فى مقر مديرية الأمن حيث يُعرض خلالها حالات إشهار الإسلام، ويجلس الشخص الذي ينوي تغيير عقيدته، مع لجنة مكونة من رجل دين مسيحى وضابط أمن، يسدي رجل الدين النصح والإرشاد لطالب الإشهار، ويمكن تكرار هذه الجلسات، للتيقن من عدم تلاعب الشخص بالدين من أجل اسباب أخرى، فمعظم الحالات التي عرضت فى تلك الجلسات كانت لفتيات صغيرات، ارتبطن بقصص عاطفية وجنسية مع شباب على غير عقيدتهن، لكن جلسات النصح التي كان أحد اطرافها كهنة الكنيسة، كانت وظيفتها التهدئة وطمأنة أسرة الفتاة بانها غير مختطفة، من جانب، ومن جانب آخر حماية الفتاة من بطش ذويها – تحت دعوى غسل العار- اذا ما صممت على تغير مسيحييتها، وفى معظم الأحوال كانت الأمور تعبر دون أزمات كبري لكن مع غياب صمام الأمان بعد واقعة وفاء قسطنطين، غابت كل المعايير المنطقية، وبرزت المكايدة الطائفية.
وتركت الأمور للمتطرفين والانتهازيين، الذين لا يهدفون إلا لزعزعة أمن الوطن وتمزيقه الى طوائف متناحرة، فيعمدون للتلاعب بقصص الفتيات والنساء اللواتي يعبرن من المسيحية للإسلام بغرض التخلص من الحياة الأسرية، او بغرض الارتباط بزوج مسلم. والوطن كله يدفع الثمن.
وحينما يقع المحظور تصرخ كل الأطراف ظلماً، والواقع يُعلن بلا مواربة ان الأزمة ليست فى الأديان ولا فى تغيير العقيدة، وانما فى المعايير والقوانين والإجراءات التي يجب اتباعها حال تغيير العقيدة، لو كانت جلسات النصح والارشاد التي الغيت بقرار سلبي من حبيب العادلي فى عام 2005 ، ولم تعد حتى الآن -رغم رفع عدد من الدعاوي القضائية لإعادتها- لما وصلنا لما نحن عليه الآن، فالقانون والدستور والمواثيق الدولية الموقعة عليها مصر، تضمن حرية العقيدة، لكن الأزمة فى تطبيق تلك الحرية التي يتلاعب بها البعض، لحل المشكلات الأسرية والعاطفية عبر تغيير الأديان، ويهتز المجتمع كله ما بين فئة تشعر بالاضطهاد والاستهداف وفئة تُمعن فى المكايدة عبر الاحتفاء بضم واحدة من بنات الفئة الأخري، وفئة ثالثة تقف موقف المُستفيد من الصراع الطائفي الذي لا يمت للدين بصلة بل هو مجرد جريان فى عروق الشطط الجنسي، وعجز عن سد ثغرات القانون الذى يستند لترسانة من التشريعات المضادة لحرية العقيدة.
حرية العقيدة التي يتشدق بها البعض هى حرية “وان واى”، لأن اجراءاتها ايضاً “وان واى”، اجراءات فى اتجاه واحد من المسيحية للإسلام، والعكس غير صحيح، ولا يجرؤ شخص ان يجهر مجرد الجهر الشفهي بالعكس، فالقصة ليست قصة رانيا حليم عبد المسيح، وانما قصة مجتمع لديه أزمات مركبة، اولها وجود ” لوبيهات” متطرفة تهلل للتحول الديني من المسيحية للإسلام، وتدعمه وتعاير به، وثانيها عدم قبول الآخر، وعدم قبول الوصم وفكرة العار الذي تجلبه المرأة للمجتمع شديد الذكورة، هذا بخلاف القبضة الأمنية على قضايا الحريات الدينية بينما المطلوب تعاطياً حقوقياً، إنها أزمات تطال العقل الجمعي للمجتمع، العقل الممزق بين الميل الطائفي، والنزوع للتحرر، الروح الممزقة بين التنور والعودة للتصحر الوجداني. إنها قصة كل امرأة راشدة، اختارت بارادتها، ترك منزل الزوجية، لانها ارتبطت برجل على غير عقيدتها، وقررت ان تقضى معه بقية حياتها، باعت ديانتها او لم تبعها، باعت اسرتها او لم تبعها، سارت فى طريق الضلال او اهتدت، ليست هذه أزمتنا، وانما ازمتنا اطلاق الحريات الدينية فعلياً، بعيداً عن تقويض هذه الحريات باغلال أمنية، ومواد قانونية تهدم اركان حرية العقيدة المنصوص عليها دستورياً ، وهو ما يدفعنا لمناشدة كل من بيده الأمر بانتزاع ملف الحريات الدينية من قبضة الأمن، ووضعه فى يد المجلس القومي لحقوق الإنسان، وتمكين المجلس، واطلاق يده فى هذا الملف، طبقاً للمعايير الدولية المتعارف عليها فى العالم، وايضاً تيسير سبل التفريق بين الأزواج والزوجات فى الديانة المسيحية، الذين استحالت العشرة بينهم، لأن التفريق داخل الحظيرة خير من الفرار خارجها