عمر عسر يكتب: من نافذة التاريخ
في 26 يوليو 1956 أعلن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تأميم الشركة العالمية لقناة السويس وإنهاء سيطرة بريطانيا وفرنسا على القناة.
كان القرار موجة “تسونامي” عاتية ضربت خارطة العالم.. دولة حديثة الاستقلال تتحدى القوتين العظميين (وقتها) وتنتزع منهما أهم مرفق ملاحي في العالم، الترقب في حده الأعلى.. “تيكرات” وكالات الأنباء وأجهزة الاتصال في كثير من السفارات تنقل فيضا من الأخبار والتحليلات وأجهزة الأمن ومراكز الفكر تضع سيناريوهات مختلفة لتبعات الحدث.
لم تتأخر لندن أو تتلكأ باريس في وضع سيناريو الرد الذي تمثل في غزو مصر بالاتفاق مع إسرائيل لإسقاط ناصر واستعادة السيطرة على القناة، وانتظر العالم مباراة ملاكمة (من جانب واحد) يقضي في نهايتها العملاقان على النظام الناشئ، لكن سير الحوادث خيّب آمال من انتظروا “مباراةً من جانبٍ واحد” فالقاهرة أجادت قراءة المشهد العالمي بأفضل مما فعلت لندن أو باريس، وتمت لمصر استعادة السيادة على القناة.
بعد انتقال جمال عبدالناصر إلى رحاب الله، بدأت حملة مغرضة لشيطنة الرجل ومحو كل نجاح تحقق له. وبدأت في إطار هذه الحملة موجة جديدة من” التأريخ الكيدي” تضمنت أن قرار تأميم القناة كان “لصنع زعامة زائفة” وأن خسائر القرار وما تلاه من عدوان كان يمكن تلافيها لو انتظر ناصر انتهاء عقد امتياز القناة في 1968 والذي كان يعني عودة القناة للسيادة المصرية دون تكلفة، وبالطبع وجد هؤلاء الزاعمون من ينشر “تنظيراتهم” على نطاق واسع ومن يصدقونهم أو يتظاهرون بتصديقهم طمعا في التقرب من سلطة كان رأسها “شريكا” لناصر في كل ما فعل، على حد زعمه قبل أن ينقلب على “شريكه” ويحاول محو اسمه بشتى الأكاذيب وبأرخص صور التزييف.
لكن الحقائق لا تموت مهما حُفرَ لها من قبور أو لُفَ حولها من أكفان، في 6 أبريل 2023 نشر موقع “بي بي سي عربي” أن وثائق بريطانية جديدة أكدت أن تعجيل جمال عبدالناصر بقرار تأميم القناة كان صحيحا، وأن بريطانيا وضعت عدة بدائل لمنع تسلم مصر السيادة على قناة السويس، تم الاستقرار من بينها على إنشاء شركة دولية بديلة تتسلم السيادة على القناة بنهاية عقد الامتياز وتحصل مصر على ربع العائدات السنوية.
الأكثر إثارة فيما كشفته الوثائق البريطانية أن حكومة الوفد الأخيرة برئاسة مصطفى النحاس باشا، كانت تمارس “تمصيرا بطيئا” لقناة السويس وهذا التمصير حال مواصلته كان من الممكن انتهاؤه بتأميم القناة أيضا!
حزب الوفد، وفق وثائق بريطانية، كان يفكر في تأميم القناة.. إذن قرار التأميم لم يكن انفعاليا ولا يهدف لخلق زعامة زائفة. والقرار إذن مستقر في الضمير الوطني المصري قبل ناصر وقبل رفض البنك الدولي تمويل إنشاء السد العالي، وبالطبع كان الضمير الوطني المصري مستعدا لمواجهة كل تبعات القرار وكل ما يمكن أن ينتج عنه من آثار.
وباستقراء وقائع التاريخ، لم يبدأ العدوان الثلاثي منذ أعلن ناصر تأميم القناة إنما بدأ مع قرار الخديو إسماعيل بيع أسهم مصر في القناة للحكومة البريطانية. هذا القرار أسّس لوضع شاذ تفقد خلاله مصر سيادتها على مرفق يخدم العالم لكنه مصري، وجاء قرار التأميم ليعيد الأمور إلى نصابها ويقوّم مسارا مهما استطال اعوجاجه فلا بد من تعديله.
تكبدت مصر خسائر العدوان الثلاثي كثمن إضافي لقرار إسماعيل باشا بيع أسهمنا في القناة وكثمن إضافي لسيل الديون الذي توهم “ولي النعم” أنه سيروي شجرة طموحه في التحديث فجرفنا السيل إلى مستنقع الاحتلال، وتحولت أحلام جناب الخديو إلى كابوس دفعت مصر تكاليفه من استقلال دولتها وحرية ودماء أبنائها.
ملأت أحلام التمدين رأس الخديو منذ إقامته في فيينا وباريس وعميت عيناه عن رؤية مخاطر الاستدانة فأغفل درسا بسيطا لا يحتاج فهمه “عقل فيلسوف” أو “علم طبيب” مؤدي هذا الدرس أنك حين تبيع بيتك لحل مشاكلك فأنت فقط تضيف إليها مشكلة التشرد، وحين تبيع ملابسك لتحديث مظهرك فلن تجد جيوبا تحفظ فيها حصيلة البيع.