د. محمد نعمان نوفل: مبادرة المصير السوداني المصري
اشتعلت الحرب الأهلية في السودان بين طرفي المكون العسكري، غير أن جمع المكونين تحت عنوان واحد ينطوي على مغالطة شديدة في وصف المكونين “الجيش السوداني وجماعة الدعم السريع”. لأننا بذلك نجمع بين إحدى مؤسسات الدولة السودانية وهو “الجيش” ومجموعة من قطاع الطرق والمرتزقة ” جماعة الدعم السريع” الذين تسللوا لرأس السلطة بسبب إنتهازية وفساد حكم البشير الذي استخدمهم كيد باطشة لتنفيذ جرائمة، كما سمح بتواجدهم على رأس السلطة غفلة وانتهازية قيادة الجيش المتمثلة في عبد الفتاح البرهان وانتهازية فريق من مكون “قحط ” هذا المكون الهلامي المجهول الدور والنسب، وكذلك تهاون تجمع المهنيين السودانيين الذين رصدوا وعرفوا ووعوا الدور المخرب لهذه المجموعة الإجرامية ” مجموعة الدعم السريع” ومع ذلك أطلقوا مطالبات غامضة لمحاسبته قطاع الطرق هؤلاء عن جريمة مجزرة اعتصام وزارة الدفاع دون الإشارة الصريحة لهم بالاسم رغم أن كل الأدلة والقرائين تشير إليهم وتؤكد دورهم الإجرامي.
تهاون تجمع المهنيين لعب دورا جنبا إلى جنب إنتهازية الأطراف الأخرى في توسع دور الدعم السريع في الحياة السياسية في السودان. وساعد على تشعب هذا الدور في المنطقة من خلال تحالفات مع أطراف إقليمية لا تضمر الخير للسودان ولا للشعب السوداني، كما ساعد هذه الجماعة الإجرامية على المزيد من السطو على ثروات الشعب السوداني ومقايضة جزء منها مع دول في المنطقة بل وعلى المستوى العالمي حيث استفادوا من الجوانب الانتهازية في السياسة الروسية للحصول على دعم دولة من الدول الكبرى، ومن ناحية أخرى تحرك قائد الدعم السريع أو لنقل زعيم عصابة قطاع الطرق للتحالف مع قطاع طرق مشابهين وهم الكيان الصهوني لاستجلاب دعم إقليمي موازي لتورط البرهان في مشاريع التطبيع مع العدو الصهيوني.
كل هذا يتم تحت أنف القوى المدنية والعسكرية للثورة السودانية، ولا نتصور أنهم كانوا غائبين عن هذه التحركات المشبوهة بل نتصور أن لديهم أضعاف ما لدينا من معلومات لأن السودان بلد بلا أسرار. ورغم هذه الغفلة أمام تصرفات زعيم الجنجويد زاد البرهان الطين بله وألحق عدد من ضباط وجنود الجيش في خدمة قوات الدعم السريع كي يمنحة المزيد من الحماية الشرعية فضلا عن ترقيته لرتبة الفريق أول وهي نفس رتبة البرهان.
على ماذا كان يراهن البرهان من هذه التصرفات ؟ البعض يفسر ذلك ضمن أحاديث ” الونسة” السودانية برغبة البرهان في الحصول على جزء من مناجم الذهب التي استولى عليها زعيم الجنجويد، ربما!! إذا كانت هذه دوافع شخصية للبرهان، فما هي دوافع قحط ودوافع تجمع المهنيين في التغاضي عن تعملق وتشعب قاطع الطرق زعيم الجنجويد لصوص الأبقار؟
خطورة القتال المتفجر في السودان أنه قتال محموم لا يحترم أي قواعد للاشتباك. إذا كان الجيش النظامي بصفتة قوات محترفة تنضبط لقواعد اشتباك محددة فإن عدوها على الأرض ليس أكثر من مجموعة من عصابات سرقة الأبقار لا تحترم أي قواعد للاشتباك بل ليست في قاموسها، فهم يستخدمون المستشفيات كنقاط تمركز لقواتهم، ولا يحترمون المدارس ولا السفارات الأجنبية، ويحتمون ببيوت السكان المدنيين ويستخدمونهم كدروع بشرية، كما يستخدمون الأسواق للمناورات التكتيكية، ويهاجمون المطارات ويحولونها لمناطق للقتال الشرس مما يشل قدرة أي طرف خارجي أراد الوساطة. هذه التصرفات غير المحترفة في القتال دفعت الجيش لخرق قواعد الاشتباك أيضا، فأصبحت هذه الحرب غوغائية وبالغة الشراسة، ولم يعد بين سكان السودان من يشعر بالآمان لذلك ارتفع عدد القتلي في صفوف المدنيين في ظل تهالك مؤسسات الدولة وتخلفها عن الإحاطة بالأعداد الفعلية للقتلى الأبرياء إللهم ما تستطيع نقابة الأطباء الوصول إليه.
حرب بهذه الشراسة تدور في بلد يعاني أصلا من تهالك وتدهور مؤسساته الصحية واعتمادها على التبرعات الدولية والمحلية لابد أن يزيد عدد ضحاياها عن أي ساحات قتال أخرى. ومع انهيار مؤسسات الدولة المتهالكة من الأصل تتبعثر جثث الموتى في الشوارع، ولا يتوافر غير الجهود الفردية من المواطنين السودانيين لدفن هذه الجثث، ومما يزيد من خطرة الوضع بدء موسم الأمطار، الذي سوف يسرع من وتيرة تعفن الجثث والمساعدة على نشر أمراض بالغة الخطورة، وهو وضع قد لا يستطيع الشعب السوداني تجنبه خاصة وأننا في شهر يونية وأمامنا موسم أمطار طويل.
الوضع في السودان الشقيق بالغ الخطر، وهو وضع لا يسمح للحكومة المصرية بأن تقف موقف المتفرج أو مقدم المساعدات الخجولة دون أن تكون مصر طرف أصيل في عمق هذه الأزمة.
الموقف السعودي الأمريكي وكذلك الضغوط الإماراتية تهدف إلى تهميش الدور المصري في إطار سياسة التهميش العام لمصر في المنطقة وللأسف النظام المصرى يستجيب لهذه الضغوط بسبب أزمته الاقتصادية الخانقة. وإن كان النظام يتصور أن الاستجابة لهذه الضغوط قد يدعو هذه الأطراف الدولية والإقليمية لمد يد المساعدة في حل المشكلة الاقتصادية فهذا وهم حقيقي، إذا كانوا ينوون المساعدة لفعلوا وفاء لاتفاقهم مع صندوق النقد الدولى ولكنهم مستمتعون بوضع مصر في هذه الزاوية التي عليها أن تخرج منها بإرادتها وإرادتها فقط.
من ناحية أخرى لم يثبت التدخل السعودي الأمريكي أي نجاح في مفاوضات جدة حتى على مستوى إقرار هدنة مؤقتة بين القوات، لأن الاقتراب السعودي الأمريكي في معالجة المشكلة خاطئ تماما لأنه قائم على المساواة بين مؤسسة الجيش وهي إحدى مؤسسات الدولة السودانية وركن أساسي من أركانها وبين جماعة الجنجويد المتمردة والتي لا تعدو أن تكون عصابات مسلحة غاصبة لثروات وطنية وذات وشائج دولية إنتهازية.
المساواة بين طرفي الصراع على هذا النحو يمنح عصابات الجنجويد نوع من الاعتراف الدولى من كل من الولايات المتحدة كقوة عظمى، والمملكة السعودية بصفتها أكبر دولة – حاليا- في الإقليم. هذه الوضع في حد ذاته لابد أن يشجع عصابات الجنجويد على المزيد من أعمال العنف لتحقيق مكاسب عسكرية على الأرض استثمارا لهذا الاعتراف الدولي. الفرضية الأمريكية السعودية ليست فرضية لحل الصراع ولكنها على العكس تهدف لتأجيج الصراع وإطالة أمده. وإذا طال هذا الصراع الدموي فإن تقسيم السودان هو النتيجة النهائية له كما حدث في حروب الجنوب والتي إنتهت بانفصال جنوب السودان عن شماله.
التقسيم المتوقع كنتيجة لهذه الحرب الضروس سوف يتمثل في إنفصال دارفور، وربما دارفو وكردفان معا بحكم الامتدادات القبلية لقبيلة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
لن يصبح هذا التقسيم أمر واقع إلا في ظل الطرح الأمريكي السعودي، مع تهميش الدور المصري. إنه نفس ما حدث لدى انفصال الجنوب عن الشمال حيث تحالف النظام الإسلامي في السودان (حكم الكيزان) مع السعودية والولايات المتحدة مع تغييب مصر عن المشهد، فتحقق انفصال الجنوب.
مصر ليست مجرد جارة تقع شمال السودان، ولا تتساوى مع أي قوى أخرى بالنسبة للسودان كما يحاول الإسلاميون وأنصار الحبشة (بصلة الدم) أن يزعموا بل ويحاولون شيطنة مصر في أعين الشعب السوداني، ولكنها محض محاولات خائبة. إن مصر والسودان كانا دولة واحدة لأكثر من ثمانين عاما، والدور المصري في توحيد القبائل السودانية في إطار دولة قومية لا يمكن نسيانه، بل أن مصر هي من أنشأت دواوين دولة السودان ورعتها رغم الاحتلال الانجليزي. العلاقة بين الشعبين لا تعرف أي فواصل، ومصر دائما الملجأ لأبناء السودان في كل احتياجاتهم والمصريون لا يميزون بين السوداني والمصري في أي شأن من الشئون. نحن بلد واحد في الجوهر رغم الحدود السياسية التي تختفي عندما يقرر المصري الذهاب إلى السودان أو يقرر السوداني الذهاب إلى مصر.
هذا الاعتبار المصيري والتاريخي بين مصر والسودان ولا أقول البلدين ولكن هذا البلد الواحد يلقي مسئولية تاريخية على النظام المصري في مقاومة أي ضغوط لتهميش الدور المصري، ويلزمه باقتحام الأزمة السودانية في العمق كطرف فاعل أصيل لا يقل عن أي طرف آخر على أرض السودان.
إنطلاقا من هذا نقترح مبادرة تهدف إلى إقصاء ما يسمى بالدعم السريع عن المشهد السياسي السوداني لضمان ما يلي:
• إمكانية وقف القتال بأسرع ما يمكن.
• حشد تأييد القوى الدولية لصالح مشروع الدولة المدنية بتوفير أساس موضوعي لهذا التأييد بعيدا عن العبارات المنافقة التي يستخدمها المشروع السعودي الأمريكي.
• سحب الغطاء السياسي لجماعة الجنجويد في المجتمع السوداني، مع الوضع في الاعتبار أنه ليس لديهم بالفعل غطاء سياسي سوى بعض الأطراف القبلية المتعصبة، وفي حال سحب الغطاء السياسي عنهم ربما يتراجعون هم أيضا.
• التخلص من أي أساس للقوة السياسية أو العسكرية التي يمكن أن يبنى عليها مشروع لتقسيم السودان.
• حشد الدعم الأفريقي الدولي والشعبي لإيقاف القتال وصيانة وحدة الأراضي السودانية.
وتقوم المبادرة على عقد تحالف بين تجمع “المهنيين السودانيين” بصفتهم الفصيل الأكثر صدقا وتمسكا بشعار الدولة المدنية، وهذا الشعار يملك في واقع الحال قوة واستجابة كبيرة من الغالبية العظمى من الشعب السوداني لذلك نتوقع أن يلتف الشعب السوداني حول هذا التحالف لأنه يعبر عن أهم مطالبه السياسية. هذا التحالف يتم بين تجمع المهنيين السودانيين و”الجيش السوداني” على الرغم من فساد البرهان وانحرافاته التطبيعية ولكنه يتربع على رأس المؤسسة العسكرية. الهدف من مثل هذا التحالف دعم الشرعية السودانية والخروج من صيغة المساواة بين الجيش وبين العصابات المتمردة ومنحها اعترافا دوليا وإقليميا، لابد من نسف هذه الصيغة المخربة الساعية لاستمرار الحرب الأهلية وتقسيم السودان. لذا نحن نعمل على دعم الشرعية السياسية في السودان بدعم الجيش في هذه المواجهة وحشد التأييد الشعبي لذلك على أرضية الاتجاه نحو الحكم المدني.
هذا التحالف له طرف ثالث وليس مجرد راعي له، وهو “الحكومة المصرية”. مصر طرف ثالث أصيل والوجود القوى لمصر في هذا التحالف يحقق ما يلي:
• توفير قوة سياسية كبيرة تدعم بصورة مباشرة الشرعية في السودان.
• تحقيق إلتفاف للقوى السودانية المرتبطة عضويا بمصر (وهي ليست قليلة) لدعم الشرعية السودانية.
• دعوة الدول الأفريقية الأخرى لدعم تحالف الشرعية مثل جنوب السودان والكونغو وتنزانيا، وكينيا وأوغنده، وجنوب أفريقيا ، والدول العربية الأفريقية على ساحل المتوسط، وغيرها من الدول المرتبطة بالدور المصري في القارة.
• تحجيم الدور السلبي لتشاد ولجماعة خليفة حفتر والحد من تدخل جماعة فاجنر المسلحة (باستثمار العلاقات المصرية الروسية) والضغط على الجزائر كي تتحرك لوقف إمداد جماعة حميدتي بمرتزقة القبائل العربية في منطقة القبائل في الجزائر ومالي.
• توفير غطاء سياسي وموضوعي لأي دعم عسكري تستطيع مصر القيام به لمساندة الجيش السوداني في مواجهة القوات المتمردة.
• وجود مصر القوى في مساندة الشرعية السودانية سوف يمنع المزيد من تقسيم السودان.
على مصر القيام بدورها التاريخي وهو قدرها ومصيرها في نفس الوقت، لأن مصير مصر والسودان واحد لا يتجزأ.