جمال عبدالقادر يكتب: لماذا خذلت السينما المصرية قضية فلسطين؟
لا حديث الأيام الماضية إلا عن ما فعله الشهيد محمد صلاح على الحدود المصرية الشرقية، وقتلة جنود من جيش الإحتلال، وبغض النظر عن الرأي السياسي للحادث وأنه تهور ورط الدبلوماسية المصرية في أزمة بلا داعٍ، لكن الفرحة التي عمت الشارع المصري والعربي أكدت بما لا يدع مجال للشك أن قضية فلسطين مازالت حية في قلوب الشعب العربي وأنها قضية كل إنسان حر وليس كل عربي فقط، قضية العدل والحق، والكيان الصهيوني هو العدو الأبدي والتاريخي، ولم تفلح محاولات تحييد مشاعرنا من خلال الحديث عن السلام والتطبيع وأن أكتوبر هي آخر الحروب ما دامت فلسطين ليست ملكا لاصحابها.
ورغم ذلك لم تكن تلك القضية العربية ضمن أولويات السينما المصرية والفن المصري، لم يتم تناولها بما يناسب أهميتها الإنسانية والتاريخية ولا أنها تخص كل عربي وتنعكس على كل الوطن العربي، تناولتها السينما المصرية بشكل هامشي وسطحي و دون تعمق، رغم تاريخ السينما المصرية الكبير الممتد منذ عام 1927 إلا أنها لم تتطرق إليها إلا بعد ذلك بسنوات وتحديدا في عام 48، رغم أن الأزمة بدأت مع وعد بلفور المشئوم وأزمة سايكس بيكو، في هذه الفترة كان هناك مبررا أن مصر كانت تحت الاحتلال البريطاني وهو الداعم الرئيسي للكيان الصهيوني، وأيضا كانت السينما وليدة وتحاول أن تقدم موضوعات غنائية و رومانسية بهدف جذب الجمهور لها وتحقيق نجاح تجاري يضمن لها الاستمرار في ظل تراجع الانتاج بسبب الحرب العالمية الثانية، لكن بعد ذلك لم يكن هناك مبررا من التخاذل والتغافل.
أول الأفلام التي تناولت قضية فلسطين كان “فتاة من فلسطين” والذي عُرض في نوفمبر 48 انتاج عزيزة امير وتأليف محمود ذوالفقار وبطولتهم أيضا، تدور أحداثه حول ضابط في الجيش المصري يستبسل في الدفاع عن أرض فلسطين، ويُصاب في الحرب وتنقذه فتاة فلسطينية وتستضيفه في بيتها لعلاجه ويكتشف أن منزلها هو مقر للفدائيين، يقع في حبها ويتزوجها وينضم للفدائيين وتستمر المقاومة، أكد الفيلم من خلال قصته على وحدة المصريين والفلسطينيين ضد العدو الصهيوني وحقق الفيلم نجاحا كبيرا رغم المخاطرة بنزوله وسط أفلام رومانسية وغنائية.
تعاود عزيزة أمير المحاولة في العام التالي من خلال فيلم “نادية” من بطولتها وإخراج فطين عبد الوهاب، والذي عُرض في فبراير 49، تدور أحداث الفيلم حول نادية الأخت الكبرى التي ترعى أخواتها بعد وفاة الأب والأم، ويكبر الأخ ويدخل الكلية الحربية ثم يشارك في حرب فلسطين ويستشهد على أرضها.
بعد ثورة 52 تم تقديم عِدة أفلام تتحدث عن حرب فلسطين فقط، من أجل الحديث عن صفقة الأسلحة الفاسدة واتهام النظام الملكي السابق بالفساد وأنه المسئول عن ما حدث مثل “الله معنا، أرض الأبطال” الذي تم انتاجه بأمر مباشر من جمال عبد الناصر واتسمت هذه الأفلام بالضعف والمباشرة والخطابة، كما لم تحضر القضية الفلسطينية في الأحداث بشكل مباشر ولم يتم التطرق لمعاناة أصحاب الأرض والحق و طردهم من وطنهم.
وفي عام 57 قدم كمال الشيخ فيلم “أرض السلام” وتدور أحداثه حول مجموعة من الفدائيين المصريين وما قاموا به من عمليات ضد العدو في أرض فلسطين، ويضطر أحدهم للاختباء في قرية صغيرة وبها يتعرف على فتاة فلسطينية تساعده ويشتركان في المقاومة ويقع في حبها ويتزوجان.
بعد ذلك حدث تراجع للأعمال التي تتحدث عن فلسطين أو حتى حرب 48 بعد أن تم الحديث عنها وعن فساد الملك والأسلحة الفاسدة وانتهى الأمر، ركزت السينما المصرية بعد ذلك في أفلام تعبر عن كفاح الشعب المصري ضد الإنجليز والملك وأفلام أخرى متنوعة كوميدي، غنائي، اجتماعي.
وفي فترة الستينات وبعد أن أظهرت دولة الاحتلال العداء الرسمي لمصر وأصبحت هناك مناوشات وتصريحات عدائية، عادت دولة الاحتلال للظهور في الأعمال السينمائية من خلال العداء الواضح لنا وتدبير المؤامرات، حيث قدم فريد شوقي أول فيلم جاسوسية في السينما المصرية وهو “الجاسوس”عام 64 تأليف وإنتاج فريد شوقي وإخراج نيازي مصطفى، ويتحدث عن شبكة تجسس لصالح دولة الاحتلال لاصطياد العساكر وصغار الضباط من الشباب لتجنيدهم وكيف استطاع رجل الأمن المصري القبض عليهم.
كما قدم حسام الدين مصطفى ومعه رشدي أباظة عام 67 فيلم “جريمة في الحي الهادي” والذي يتحدث عن شبكة إرهابية تابعه لدولة الاحتلال تهدف لتنفيذ عمليات إرهابية وتفجيرات داخل منشآت حيوية في مصر و كيف استطاع الأمن المصري القبض عليهم.
وفي عام 67 وعن القضية الفلسطينية مرة أخرى قدم نور الدمرداش فيلم “الدخيل” ويحكي عن زكي موسى المُشرد وابنته فُتنة اللذان يلجآن إلى قرية ويطلبان المساعدة والإقامة لديهم وبالفعل يرحب بهما أهل القرية ويعيشان بينهم، وتبدأ المؤامرة تستغل فُتنة جمالها في تنازل رجال القرية عن أرضهم لهما، بينما زكي يُقرض الفقراء المال ثم يسلبهم بيوتهم وأراضيهم، وفجأة يصبح هو صاحب الأرض ويطرد أصحابها منها و يلجأ أصحاب الأرض لقرية مجاورة وتبدأ الحرب بينهم، توقيت عرض الفيلم ظلمه حيث جاءت نكسة يونيو وانهارت السينما وقاطع الجمهور الأفلام وتم رفعه من دور العرض واختفى للأبد.
بعد نكسة 67 حدث تحولا كبيرا في السينما المصرية وما تقدمه، حيث قدم علي عبد الخالق “أغنية على الممر” والذي عُرض في عام 72 وتحدث عن فكرة المقاومة ضد العدو حتى بعد تخاذل القيادة وعدم استجابتها لاستغاثة الجنود من خلال جهاز الإرسال الذي ظنوا أنه تعطل، وينتهي الفيلم بغناء الجنود لأغنية حماسية تدعو للمقاومة ويعلو الصوت تدريجيا حتى يغطي على صوت العدو الذي يطلب منهم الاستسلام.
وبعد نصر أكتوبر تم تقديم عددًا من الأفلام عن الحرب بدعم من السادات من أجل تأريخ النصر وعهده، كما تم تقديم أفلام عن الاستعداد للحرب من خلال حروب المخابرات وأجهزة الدولة (بئر الخيانة، إعدام ميت، مهمة في تل ابيب، 48 ساعة في إسرائيل، فخ الجواسيس) ورغم تباين مستوى هذه الأفلام بين الضعيف والجيد إلا أنها حافظت على وجود العدو الصهيوني في المواجهة.
ويعتبر فيلم “الظلال على الجانب الآخر” أحد أهم الأفلام التي تم تقديمها عن القضية الفلسطينية، للمخرج الفلسطيني غالب شعث، ومن بطولة محمود يس، نجلاء فتحي، أحمد مرعي، استطاع المخرج من خلاله تشريح المجتمع العربي وأسباب نكسة 67 ومسئولية الشعوب قبل الحكام، ورغم أن الفيلم إنتاج عام 73 إلا أنه لم يعرض إلا في عام 75 وتعرض للهجوم من الأبواق الحكومية مع بداية عصر السلام وكامب ديفيد مع الرئيس المؤمن واستمر الهجوم والتضييق على المخرج بدعم ومساندة من يوسف السباعي وزير الثقافة في هذا الوقت حتى رحل عن مصر واختفى الفيلم للأبد.
مع بداية عصر الانفتاح والسداح مداح تراجع الحديث عن القضية الفلسطينية وعن العدو الإسرائيلي نزولا على رغبة النظام وقتها، كما انشغل صُناع السينما بمواجهة قيم الانفتاح والنفعية وما تبعه من تغير في الشخصية المصرية، ولم يخرج من هذا الاطار إلا المخرج عاطف الطيب عندما قدم عملين من أهم الافلام في هذه المرحلة “كتبية الاعدام” عام 89 والذي تناول مفهوم الخيانة والرفض الشعبي للتطبيع وأن العدو الأبدي ما زال هو العدو رغم أي معاهدات أو اتفاقيات، ثم قدم فيلم “ناجي العلي” عام 92 والذي تناول سيرة الفنان الفلسطيني ناجي العلي ورحلته إلى لبنان ثم الكويت مع الحرب الأهلية في لبنان ثم إلى لندن ونضاله ضد العدو الصهيوني وتواطؤ بعض الحكام العرب، حتى اغتياله ومن تورط في قتله، وبسبب هذا الفيلم تعرض عاطف الطيب ونور الشريف لهجوم كبير واتهام بالخيانة ومنع أعمالهم، مما اضطر نور إلى نقل اقامته إلى لندن لفترة مؤقته.
وفي عام 1985 قدم اشرف فهمي فيلم “سعد اليتيم” و رغم انه عن السيرة الشعبية الشهيرة إلا إن يسري الجندي اضاف لها بُعدا سياسيا، عندما اضاف خط درامي جديد على السيرة الشعبية الشهيرة وهي شخصية موسى التاجر المُرابي والذي جاء للحارة ولا أحد يعرف نسبه ولا أصله ويحاول الاستيلاء على التكية التي يسكنها الدراويش في ظل انشغال فتوات المنطقة بصراعاتهم و مصالحهم الشخصية مع موسى حتى أن أحدهم يساعده في مخططه من أجل المال والدهب، ورغم مباشرة الخط الدرامي واسم الشخصية إلا أن الهدف من وجوده تحقق وفهم الجمهور ذلك، و بالطبع خوف صُناع السينما من عدم تحقيق النجاح وانصراف الجمهور هو السبب الرئيسي في هذه المرحلة في عدم تقديم عمل مباشر عن القضية الفلسطينية و الاكتفاء بتلميح بسيط أو وجود خط درامي داخل عمل تجاري يضمن النجاح ومع وصول الفكرة للجمهور.
بعد ذلك دخلت السينما المصرية في موجة الكوميديا والسينما النظيفة حتى من الأفكار والمضمون، واكتفى صُناع السينما بمشاهد معدودة ضمن سياق الفيلم مثل حرق العلم الاسرائيلي في فيلم صعيدي في الجامعه الأمريكية أو شخصية اليهودي الشرير في فيلم همام في امستردام أو مشهد الفدائي الفلسطيني في فيلم أصحاب ولا بيزنس حتى تمنح الفيلم بُعدا سياسيا وثِقل رغم سطحية الفكرة.
في عام 1999 قدم محمد راضي فيلم “فتاة من اسرائيل” من إخراج إيهاب راضي وبطولة محمود يس، فاروق الفيشاوي، والذي تناول التطبيع والعلاقات مع إسرائيل من خلال محاولة دكتور اسرائيلي وابنته لاستقطاب شاب مصري للسفر والعمل في إسرائيل كما عملوا على ادمان باقي الشباب للمخدرات في اشارة لانتقال الحرب بيننا وبينهم لصورة وشكل آخر.
وفي عام 2005 قدم عادل امام فيلم “السفارة في العمارة” و الذي فرّق بين التطبيع الرسمي للدولة باتفاقيات ومعاهدات، وبين التطبيع الشعبي المرفوض من كل فئات المجتمع حتى ان العاهرة رفضته عندما علمت انه يسكن بجوار السفارة و يصداقهم، وضع الفيلم المواطن المصري بين اختيار التطبيع مقابل حوافز و دعم من الدولة او رفض التطبيع وتحمل تبعات القرار من تضييق و حصار وربما سجن، وفي النهاية يختار البطل رفض التطبيع والانضمام للرفض الشعبي.
في نفس العام قدم يسري نصر الله رائعته الكبيرة فيلم “باب الشمس” الجزء الاول بعنوان الرحيل والثاني بعنوان العودة، وهو عمل ملحمي عن القضية الفلسطينية من خلال قصة حب لبطل مقاوم يغادر القرية في حين تظل زوجته متمسكة بالبقاء ويظل هو يحاول على مدار عشرين عاما التسلل من لبنان والعودة لقريته و مقابلة زوجته في مغارة باب الشمس وينجب منها طفلا، الفيلم ليس مجرد صورة نمطية عن المحتل والتفجير وحرق العلم ولكنه يحمل روحا عقلانية للقضية الفلسطينية و صورة انسانية للمناضل الفلسطيني، وقد حقق الفيلم نجاحا كبيرا عند عرضه في أوروبا، بينما لم يعرض في الوطن العربي.
وفي النهاية يمكننا القول بأن السينما المصرية خذلت القضية الفلسطينية ولم تقدم المرجو منها في مناصرتها ودعم حق الشعب الفلسطيني، لم تقدمها كقضية رئيسية تخص الوطن العربي كله من المحيط للخليج ونتائجها تنعكس على الجميع وليس أصحابها فقط، منذ نكبة فلسطين وحتى الآن قدمت عددًا محدودًا من أفلام متباينة المستوى كلها لم تتعمق في القضية وأسبابها ولا نتائجها.
الآن وبعد أن هرول الخليج كله للتطبيع من أجل كسب رضا أمريكا و دولة الاحتلال، أصبحت السينما المصرية في أزمة حقيقية لأنها في الأساس تعتمد على الخليج سواء في التمويل والإنتاج أو في التوزيع وأصبح الآن غير مقبولا تقديم أو تمويل عملا يتناول حق الشعب الفلسطيني وفضح دولة الاحتلال، لكننا نثق في أن السينما المصرية قد تستطيع تجاوز كل هذا وتقف كعادتها مع أصحاب القضية ضد العدو الأبدي والتاريخي لنا جميعا.