جمال عبدالقادر يكتب: الفيلم السياسي.. حضور اتسم بالمباشرة والسطحية ثم غياب بلا مبرر
السينما تلك الساحرة الكبيرة، التي تأثر العقول وتسرق القلوب والأنظار، نستطيع من خلالها تشكيل وعي الجماهير وثقافتهم، ولانها الوسيلة الأكثر انتشاراً في العالم من كل وسائل الفنون وأدوات القوى الناعمه، كان منطقياً أن تستخدمها الأنظمة في توجيه الشعوب وتحريضها على فعل ما، ولأن السياسة هي فن إدارة الأمور (من الفعل يسوس أي يقود) في كل ما يمس حياة الإنسان، دون أن تكون قاصرة فقط على نظام الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، كان من الطبيعي أن تكون هناك علاقة بين السياسة والسينما، حيث ظهر على فترات في تاريخ السينما المصرية ما يُعرف بالفيلم السياسي.
تعريف الفيلم السياسي
يُعرف الفيلم السياسي بأنه الفيلم الذي يتناول الواقع السياسي الحالي في زمن إنتاج الفيلم وليس زمن سابق على زمن إنتاج الفيلم، وهو أيضا الذي يتناول شخصية سياسية أو حدث سياسي كبير كان له تأثيراً حقيقيا في نفوس الجماهير في زمن إنتاج الفيلم أيضا، وقد يكون عن أحداث واقعية أو من وحي خيال المؤلف لكنه يحمل اسقاطاُ على الواقع.
ورغم الخلاف حول تعريف الفيلم السياسي إلا أن السينما المصرية عرفت هذا النوع من الأفلام منذ نشأتها، وقد غلب عليه التوجيه والنفاق وكثير من السطحية والتنكيل بشخصية ما أو فترة زمنية محددة، إلا ان هناك من حاول كسر هذا الجمود والتوجيه وقدّم إبداعاُ خالصاً في محاولة للتأثير في وعي الجمهور، لكن غلب عليه أفكاره الخاصة وايدلوجيته الشخصية وتجرد من الموضوعبة وإن كان هذا أمرا طبيعيا فالسينما في الاساس وجهة نظر وليس مطلوبا الحيادية في طرح قضية ما، وبشكل عام كان النظام السياسي حاضرا بشكل قوي في صناعة الفيلم السياسي في تاريخ السينما المصرية والتي قدمت ما يقارب 100 فيلم او اكثر ينتموا لهذا النوع من السينما.
أعمال قليلة بها كثير من المباشرة والسطحية
البداية كانت من خلال فيلم “لاشين” من اخراج الالماني فرانز كامب، انتاج ستديو مصر عام 1938 و تدور الاحداث حول لاشين قائد الجيش والذي يتسم يالعدل والحسم ويقف على النقيض رئيس الوزراء الذي يتربح من منصبه على حساب الشعب، ويحاول لاشين ان يُنبه الحاكم لما يفعله رئيس الوزراء من فساد، إلا أن رئيس الوزراء ينجح في تلفيق تهمه لـ لاشين وإيداعه السجن، وهذا ما يسبب احتقان شعبي وثورة على الحاكم ونظامه واطلاق سراح لاشين الذي يصبح حاكما للبلاد، تم منع الفيلم من العرض واعتبرت الرقابة وقتها ان الفيلم يحمل اسقاطا على الاوضاع الحالية ويدعو للثورة على الملك، ويعتبر لاشين اول فيلم تنبأ بسقوط الملك ونظامه بثورة شعبية يقودها قائد جيش، وتم عرض الفيلم بعد 23 يوليو
فيلم مصطفى كامل تم تصويره في نهاية عام 50 وتم منعه من الرقابة بسبب قصة حادث دنشواي حيث رأى الدكتور عبد الباسط الحجاجي مدير إدارة المطبوعات أن عرض الفيلم قد يُغضب الانجليز، وفي يناير 51 تم تشكيل لجنة من الفنانين والنقاد (يوسف وهبي، حسين صدقي، احسان عبد القدوس) لمقابلة حجاجي ورأت اللجنة أن هذا الحذف يخل بالسياق الدرامي للفيلم، ولكن ظل حجاجي على رأيه وقاد إحسان حملة صحفيه للدفاع عن الفيلم والتنديد بالمنع، وبعد حريق القاهرة في يناير 52 تغيرت الوزارة وتولى ابراهيم عبده إدارة المطبوعات وقرر بدرخان مخرج ومنتج الفيلم اعادة المحاولة ولكن كان نفس الرأي وهو منع عرض الفيلم بأوامر عليا حسب ما صرح به مدير المطبوعات، ونظم بدرخان عرضا خاصا للفيلم حضره كل من حافظ باشا رمضان رئيس الحزب الوطني، صلاح الدين باشا وزير الخارجية، عبد الرحمن الرافعي، يوسف وهبي، ام كلثوم، محمد عبد الوهاب، فكري اباظه، وإحسان عبد القدوس وصلاح ذهني، اللذين قادا حملة صحفية جديدة للدفاع عن الفيلم لكن دون جدوى، وظل ممنوعا حتى تم عرضه بعد 23 يوليو.
حكم قراقوش انتاج عام 1953، انتاج سراج منير والذي خسر كل امواله وتعرض لازمة قلبية نتيجة عدم تحقيق الفيلم النجاح المرجو، الفيلم يتناول فترة حكم الحاكم قراقوش والذي يقع في حب فتاة من عامة الشعب ويحاول الزواج منها بالإكراه كما أتسم حكمه بالظلم وفرض الضرائب على الشعب وينتهي الفيلم أيضا بثورة شعبية تُطيح بالحاكم يقود هذه الثورة شاب من عامة الشعب وهو خطيب الفتاة التي يحاول قراقوش خطفها.
بعد 23 يوليو ظهرت كثير من الافلام تتناول فترة حكم الملك وعلاقة السرايا والباشوات و بالاحتلال ومدى الظلم الذي عانى منه الشعب، لكن غلب على هذه الافلام المباشرة والسطحية، كما ثبت بعد ذلك عدم صحة ما تناولته بعض هذه الأفلام من روايات واحداث مثل فيلم الله معنا الذي تناول قضية الأسلحة الفاسدة وأفلام رد قلبي، الارض الطيبة، قصة حبي لـ فريد الاطرش انتاج 1955 والذي روّج من خلاله قصة خطف الملك فاروق لـ ناريمان التي كانت تربطها قصة حب بـ فريد الاطرش، لا وقت للحب، انا حرة، من أُحب وهو فيلم اخر تناول قضية الاسلحة الفاسدة، واستمرت السينما المصرية في تقديم هذا النوع من الافلام طوال فترة الخمسينات و منتصف الستينات كلها تحكي عن فترة ما قبل 52 دون التعرض لحكم عبد الناصر بأي نقد،
تغير كبير في محتوى الفيلم السياسي
وجاءت نكسة 67 ليحدث تغييرا كبيرا في السينما المصرية وتظهر افلاما تنتقد الحقبة الناصرية للمرة الاولى مثل، فيلم العيب اول افلام انتقاد نظام عبد الناصر والذي عَرض في نوفمبر 67 بعد حذف عديد من المشاهد، ثم افلام: ميرامارا والذي ظلمته الرقابة بشدة حيث حُذف منه كثير من المشاهد والجُمل الحوارية التي حملت كثيرا من النقد للتجربة الناصرية، و أفلام شيء من الخوف وثرثرة فوق النيل وغروب وشروق وهو اخر افلام الحقبة الناصرية.
عودة للمباشرة وتصفية الحسابات
ومع فترة حكم السادات ظهر الفيلم السياسي بشكل مختلف حيث ظهر جليا وقوف الدولة خلف هذا الفيلم و دعم هذا التوجه وهو التعرض لحكم عبد الناصر بالنقد والهجوم حتى يظهر السادات راعيا للفن وحرية الابداع كما يظهر انه لم يكن راضيا على ممارسات نظام عبد الناصر رغم وجوده بينهم، وذلك من خلال افلام الكرنك، احنا بتوع الاتوبيس، شاهد اثبات، اسياد وعبيد، زائر الفجر، ورا الشمس، ليل وقضبان، وغيرها من الافلام التي تناولت حكم عبد الناصر ومعتقلاته وفاشيته كما زعموا.
واستمر هذا الامر في بداية فترة حكم مبارك حيث استمر العداء لحكم عبد الناصر وشخصه و محاولة تبرءة فاروق مما تم الصاقه به في افلام الخمسينات، وظهرت افلام مثل الشطار، ملف سامية شعراوي، اعدام قاضي، كما ظهرت افلام تنتقد الانفتاح والتغيرات الاجتماعية واختلال القيم والمعايير التي حدثت بسببه مثل سواق الاتوبيس، على من نطلق الرصاص، انتبهوا ايها السادة، السادة المرتشون، اهل القمة.
انفراجه بسسيطة سمحت بتجارب جيدة
مع نهاية حكم مبارك حدثت انفراجه محدودة في مساحة الحرية نتج عنها افلام انتقدت نظام مبارك نفسه، اللعب مع الكبار، الارهاب والكباب، طيور الظلام، التحويلة، بخيت وعديلة، الراقصة والسياسي، هي فوضى، وقبلهم فيلم البريء، كما تم تقديم فيلم ناصر 56 وهو من انتاج الدولة وفيلم ايام السادات من انتاج احمد زكي بمشاركة الدولة.
لماذا غاب الفيلم السياسي بعد ذلك
وبعد انتهاء حكم مبارك وقيام ثورة 25 يناير ظهرت افلام فرش وغطا، الشتا اللي فات، اشتباك، الميدان، نوارة، كلها كانت محاولات فردية حملت وجهة نظر اصحابها ولم ترقى لاهمية الحدث، بعد ذلك اختفى الفيلم السياسي ولم يظهر حتى الان ربما رأى صُناع السينما ان الاحداث التي مرت على المجتمع وما قدمته برامج التوك شو احدثت حالة من التشبع لدى الجميع واصبح واجبا ان يتم تقديم شيء مختلف بعيدا عن السياسة ونقد الواقع الذي يحتاج وقتا للرصد والتحليل والنقد، بالاضافة لإحكام الدولة على صناعة الفن والثقافة بشكل كامل وهو ما يجعل من المستحيل تقديم عمل فني ينتقد النظام.
من خلال كل هذا نلاحظ ان الفيلم السياسي في اغلب الوقت موجه و مدعوم من الدولة والنظام الحاكم بهدف الهجوم على العصر السابق والحاكم الذي رحل والتمجيد للنظام الحالي والذي سمح بهذه الافلام، والتجارب الفردية كانت بسيطة و ضعيفه لاسباب خاصة بالانتاج و صعوبة الإفلات من الرقابة، ولكنها كانت جيدة وبها ابداع بعكس ما اتسمت به الافلام الموجهه بالمباشرة والسطحية.