يحيى قلاش يكتب: الأهرام والحلم النقابي
الأهرام ليست مؤسسة عريقة فقط، وليست أقدم الصحف القائمة حتى الآن منذ صدورها عام 1876، بل هي أيضًا أول صحيفة انطلقت منها الدعوة لإنشاء نقابة الصحفيين عام 1891 ككيان شامل يحمي كل العاملين في المهنة، بغض النظر عن انتماءاتهم المؤسسية. هذه الدعوة التي تكررت على صفحات جريدة «المؤيد» عام 1909 وتبعتها صحف أخرى.
منذ ذلك التاريخ وعلى مدى 50 عامًا، كانت الأهرام وصحفيوها شركاء في صناعة حلم إنشاء الكيان النقابي مع جموع الصحفيين وأصحاب الصحف من كافة المؤسسات، حتى تحقق الحلم عام 1941 في إطار رؤية تجاوزت الحدود بين المؤسسات الصحفية.
وظلت لنقابة الصحفيين تقدير خاص عند الأستاذ محمد حسنين هيكل، حتى قبل انتقاله إلى الأهرام التي أخذت في عصره مكانة كبيرة.
موقف هيكل ارتبط باحترامه لنفسه ولمهنته ولمنظومة قيم حافظ عليها. فعندما كتب سلسلة مقالات في منتصف خمسينيات القرن الماضي على صفحات مجلة «آخر ساعة»، التي كان يتولى رئاسة تحريرها، هاجم فيها القيادات الصحفية القديمة وتناول موضوع المصروفات السرية التي كانت تدفعها وزارة الداخلية لبعض هؤلاء لضمان ولائهم، ونشر ما كان يُرسل لهم من أخبار، وقامت الدنيا على هيكل، الشاب الذي «تجاوز في حق الكبار»، وقررت النقابة إحالة هيكل إلى لجنة تحقيق برئاسة شيخ الصحفيين حافظ محمود. ومثل هيكل أمام اللجنة ومعه محاميه الدكتور علي الرجال، وكان تقدير هيكل للنقابة وشرحه أمام اللجنة لدوافع ما كتبه بهدف المصلحة العامة ودون قصد التعريض الشخصي بأحد «من الأساتذة وكبار الزملاء الذين انتقدهم» مدخلًا لإنهاء الأزمة، مما يؤكد أن النقابة كانت فضاءً للنقاش المهني بعيدًا عن الولاءات الضيقة.
وحكى لي نقيب النقباء كامل زهيري أن هيكل كان – على عكس ما يعتقد البعض – داعمًا للكيان النقابي ومساندًا لكثير من النقباء الذين تحملوا المسؤولية. وفي أزمات كثيرة واجهت المهنة أو تعرض لها بعض الصحفيين، كان مؤيدًا لموقف النقابة، ورافضًا التنكيل بالزملاء أو نقل بعضهم إلى وظائف غير صحفية، ورفض تنفيذ قرار السادات بنقل ثمانين صحفيًا إلى وظائف في مصلحة الاستعلامات، ووضع استقالته أمام الرئيس، وهو ما يعكس التزامه بمبادئ كانت فوق أي اعتبارات أخرى.
وهيكل هو الذي أرسى سابقة مهمة في رؤيته لدور النقابة، فعندما ترك الأهرام بعد قرار السادات تعيين الدكتور عبدالقادر حاتم رئيسًا لمجلس الإدارة في 31 يناير 1974، كان رأيه أن يتم انتقال متحضر يليق بالأهرام ويليق به، فدعا صباح اليوم التالي (أول فبراير) الدكتور حاتم ومجلس إدارة المؤسسة ومجلس التحرير، في حضور ممثل عن مجلس نقابة الصحفيين، وسلمه تقريرًا من العقل الإلكتروني عن اقتصاديات الأهرام وتوزيعه وأرباحه، ثم غادر! وعكست هذه الخطوة الرمزية مدي تقديره للكيان.
واذكر للأستاذ هيكل عندما قررت الترشح على موقع النقيب عام ٢٠١٥ امام أحد الزملاء والأصدقاء الاعزاء بالاهرام وطلب أن يستمع مني لدوافع هذا القرار وفي النهاية وافقني وكان أول من اتصل بي بعد اعلان النتيجة للتهنئة.
كثير من النقابيين الذين التحقوا بعضوية مجلس النقابة من أبناء الأهرام، لم نشعر – رغم الاتفاق أو الاختلاف الطبيعي داخل نقابة رأي – إلا بانتمائهم لجمعيتهم العمومية، ولم يشعرونا لحظة أنهم أبناء قبيلة، بل تعاملوا دائمًا كجزء من النسيج النقابي الموحد. وأذكر كثيرًا منهم، نقابيين ونقباء، تركوا أثرًا مهمًا في مسيرة العمل النقابي.
لكن يتفرد إبراهيم نافع بوجوده على مقعد النقيب لست دورات وصلت إلى اثنتي عشرة سنة، وهي أطول مدة لنقيب، شهدت خلالها أحداثًا مهمة، ومع مجالس نقابة شديدة التنوع، حيث جمع بين ولائه للأهرام ومسؤوليته كنقيب لكل الصحفيين دون تمييز ولم نسمع منه يوما كلمة تصنف أحد على انه من بتوع التيار أو الشلة أو اليسار أو اليمين!.
أشهد – منذ أصبحت عضوًا بالمجلس وسكرتيرًا عامًا لأكثر من دورة – كيف استجاب نافع لغضب الجمعية العمومية وإرادة أغلبية المجلس في مواجهة القانون 93 لسنة 95، وعندما تقدم المجلس باستقالة جماعية، لم يحاول أن ينجو بنفسه – وكان يستطيع – بل انضم لقرار المجلس وهو يعلم أن الأمر – كما قال لي – يمكن أن يكلفه موقعه في الأهرام.
وأذكر عندما كنت سكرتيرًا عامًا للنقابة، تم إبلاغ أحد الباحثين الشباب بمركز الدراسات بإنهاء عقده بعد تعيينه بستة أشهر بسبب تقرير أمني يقول: “كان له نشاط يساري في الجامعة”، وذهبت إليه في مكتبه – وكنت لا أفعل ذلك إلا نادرًا – وأطلعته على الأمر، وفوجئت بدهشته. فتتبع الأمر واستدعى في وجودي أكثر من مسئول، وأنهى الأمر قبل أن أغادر مكتبه، وعاد الزميل إلى عمله.
ومرات أخرى، عندما كانت تحدث مشاكل تندرج تحت بند علاقات العمل في الأهرام وهو على رأس المؤسسة، كان مدخلي إليه أن الأهرام نموذج خاص، وأنت على مقعد النقيب. وفي كثير من الحالات التي استجاب لها، تغلب عليه منطق النقيب على رئيس المؤسسة.
الأهرام كبيرة وستظل.. وهي قاطرة لتاريخ صحفي طويل، ولتاريخ نقابي أدركت مبكرًا قيمته، وأدرك كل أبنائها جيلًا بعد آخر أن انفتاحهم المهني والنقابي هو الذي يحفظ استمرار مسيرة هذا العطاء الطويل.
لقد أثبتت الأهرام عبر تاريخها أن القيمة الحقيقية تكمن في القدرة على تجاوز الحدود المؤسسية، وأن النقابة يجب أن تبقى بيتًا للجميع، يحمي المهنة ويصون كرامة كل صحفي، بغض النظر عن المؤسسة التي ينتمي إليها.