يحيى قلاش يكتب: أحمد بهاء الدين في عزاء رفيقته ! 

رحلت السيدة ديزي روفائيل، زوجة ورفيقة درب الأستاذ أحمد بهاء الدين، ولحقت به بعد ٢٩ عامًا من رحيله. تشرفت بلقائها للمرة الأخيرة في سبتمبر الماضي بنقابة الصحفيين خلال حضورها حفل توزيع جوائز مؤسسة هيكل، حيث كانت تربطها صداقة وطيدة بالأستاذ هيكل والسيدة حرمه هدايت تيمور. 

هذه السيدة جمعتها بالأستاذ بهاء قصة حب عظيمة، وساندته في مشواره الطويل، وكانت بجواره في كل معاركه، حتى معركة مرضه الأخير، الذي استمر ست سنوات عقب إصابته بنزيف في المخ إثر مشاهدته صور غزو العراق للكويت. 

 بصمات أستاذنا الكبير أحمد بهاء الدين لا تُعد ولا تُحصى، وكان حضور سيرته في سرادق عزاء زوجته ظاهرًا في ملامح الحضور وفي تربيته أولاده . 

لقد خاض الاستاذ معارك كثيرة، وكانت له آراء جريئة في السياسة والفكر والفن والثقافة. لكن ربما لا يعرف الكثير منا، أو من شبابنا، أن الأستاذ بهاء كان نقيبًا من طراز فريد، فقد سعى الصحفيون لاختياره لهذا الموقع عقب نكسة ٦٧، وتحت إلحاحهم، اشترط للموافقة على قبول المهمة أن يستمر لدورة واحدة فقط. وعندما رشحه النقيب الراحل حسين فهمي ليخلفه في رئاسة اتحاد الصحفيين العرب، اشترط أيضًا أن يستمر لدورة واحدة، ورفض كل الضغوط التي مورست عليه ليستمر لدورة أخرى. 

من بين المواقف المشهودة له أثناء توليه رئاسة النقابة في هذه الفترة أنه، عقب مظاهرات الطلبة عام ٦٨ احتجاجًا على نتائج المحاكمات التي صدرت ضد المسؤولين عن هزيمة يونيو ٦٧ والمطالبة بإعادة هذه المحاكمات، احتشد عدد كبير من الطلاب المتظاهرين أمام مبنى النقابة لإيصال صوتهم إلى الرأي العام من خلال الصحافة. خرج عليهم عدد من الزملاء أعضاء مجلس النقابة، من بينهم الزميل الكبير الراحل سعد زغلول فؤاد، الذي اعتلى كرسيًا وخطب فيهم بحماس. ووجّه الأستاذ بهاء الدعوة إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس النقابة مساء اليوم نفسه بعد التشاور مع أعضاء المجلس (الذي كان يضم في عضويته كامل زهيري، وفتحي غانم، ومحمود المراغي، وعلي حمدي الجمال، وصلاح الدين حافظ، وسعيد سنبل، وصبري أبو المجد، وسامي داود، ومحمود سامي، وطلعت شعث، ومنصور القصبي). انتهى اجتماع المجلس إلى الاتفاق على تأييد موقف الطلاب، وتفويض النقيب في صياغة البيان الصادر عن الاجتماع. كانت الضغوط هائلة عليه لإثنائه عن إصدار هذا البيان، إذ أتى ضغط التنظيم السياسي ثماره في بعض النقابات الأخرى، لكنه ردّ بأنه لا يملك ذلك، فالأمر قرار مجلس النقابة كله وليس قراره وحده. 

ذهب الأستاذ بهاء إلى منزله، ورفع سماعة الهاتف الأرضي (حتى لا يتلقى أي اتصالات أخرى)، وكتب البيان الذي أكد فيه: 

“إن مجلس نقابة الصحفيين يعتقد أن المظاهرات التي قام بها طلبة الجامعات والعمال كانت تعبيرًا عن إرادة شعبية عامة تطالب بالتغيير على ضوء الحقائق التي كشفت عنها النكسة، وبناءً عليه يجب الإسراع في محاسبة كل المسؤولين، وتعميم هذه المحاسبة حتى تشمل كل القطاعات والمؤسسات في البلاد، كما يجب توسيع قاعدة الديمقراطية، والإسراع في إصدار القوانين المنظمة للحريات العامة.” 

انحاز البيان بوضوح إلى مطالب الشعب الغاضب من الهزيمة والمطالب بإعادة المحاكمة. 

استيقظ الأستاذ بهاء مبكرًا وذهب إلى النقابة ليشرف بنفسه على كتابة البيان وتوزيعه على كافة الصحف ووسائل الإعلام. قامت الدنيا ولم تقعد، وأحدث البيان دويًا وغضبًا. وأرادت بعض الأجهزة أن تحمل الزميل الراحل صلاح الدين حافظ، سكرتير عام النقابة وقتها، مسؤولية كتابة البيان وتوزيعه، فأبلغ النقيب جميع من يعنيهم الأمر بأنه المسؤول وحده، وأنه يتحمل النتائج كاملة. 

وعندما عرضت هذه الأجهزة على جمال عبد الناصر معاقبته، رفض  بحسم أي مساس به، وقال: “أنا أعرفه، وهذه رأسه.” واكتفى بإرسال عتاب له عبر صديق مشترك، هو الدكتور سامي الدروبي، السفير السوري بالقاهرة، الذي كان وثيق الصلة بعبد الناصر، وقال له: “قل لبهاء إنني موجوع من النكسة بما فيه الكفاية، وإن البيان الذي أصدرته النقابة كان طعنة في وقت حرج.” 

رحم الله الأستاذ، الذي التقيته مرة واحدة في مكتبه بالأهرام، ومرة في النقابة، والعديد من المرات في المسارح ودور السينما ومعارض الفنون التشكيلية وبعض الندوات التي كان يحرص على حضورها. ستظل سيرة الأستاذ بهاء الدين حاضرة في كل مناسبة تنير لنا ظلمات أيامنا وتخفف عنا عبء جهل الذين يريدون ان تضمر نقابة الرأي ويخفت صوتها، وتؤكد أن الكلمة الحرة تبقى، أما الزيف وادمان الكذب، فمهما تجمّلا، إلى زوال. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *