يحيى حسين عبد الهادي يكتب عن ثلاثية «الهروب من الذاكرة»: أشكو إليكم إبراهيم عبد المجيد
وأنا فى محبسى، أخبرني أحد كبار المثقفين الشباب (لن أذكر اسمه لأنه لا يزال مسجوناً منذ سنوات) أنَّ ثلاثيةَ إبراهيم عبد المجيد الأخيرة “الهروب من الذاكرة” بأجزائها الثلاثة: (العائد إلى البيت فى المساء- طريقان للهروب- لأن فى الدنيا نساء) قد (تَسَّرَبَتْ) إليه فى إحدى الزيارات .. أعارنى إياها لافتاً نظرى إلى جُرأتها فى وصف ما يحدث فى أيامنا الحالية .. عَكَفْتُ على الرواية السِفْر (أكثر من ٧٠٠ صفحة) أسبوعاً كاملاً .. أَخَذَتْنِى فيه من ضِيقِ الزنزانة وحَرِّها وبؤسها إلى عالَمٍ من المتعة والألم، مع بطل الرواية الذى أحسستُ أنه واحدٌ ممن يجاوروننا فى سجن المزرعة (فى الرواية سجن القناطر رجال).. البطل الذى أُفرِج عنه فجأة بعد خمس سنواتٍ من الحبس الاحتياطى بنفس التُهَم العبثية .. دون أن يكون له أدنى صلةٍ بعالم السياسة ولا الثقافة .. وانعكاس ذلك على أسرته .. وكيف كَبَّلَتْه سنوات الحبس بعد الإفراج حتى فكَّرَ فى العودة للسجن مرةً أخرى .. ثم كيف تَعَافَى نفسياً وعملياً بمساعدة زوجته وأصدقائه .. مع رصدٍ دقيقٍ لما يحدث فى المحاكم والسجون والمجتمع من مهازل أصبحت من علامات المرحلة الحالية .. الرواية كُتِبَت فى الفترة من أكتوبر ٢٠١٩ حتى فبراير ٢٠٢١ .. أى أن بطلها اعتُقِل فى ٢٠١٤ .. ولا أظن أن روايةً أُخرى نُشِرَت فى مصر تطرقت إلى هذا الموضوع بهذه الصراحة والجرأة والصدق .. ظَنِّى أن ذلك لأنها نُشِرتْ خارج مصر (إيطاليا) .. وأدعو اللّهَ أَلَّا يُعَّدَ ذلك بلاغاً لمصادرة الرواية ومنعها .. أو ضد ضابط الرقابة الذى سمح بتوزيعها فى مصر (عن وعىٍ أو جهل) .. أو ضد مؤلف الرواية الصديق المبدع إبراهيم عبد المجيد .. وإن كنتُ أعتقد أن ذلك أمرٌ بالغ الصعوبة بعد أن نال عن استحقاقٍ منذ أسابيع قليلة أعلى جوائز الدولة (ربنا يستر) .. كان أول ما فكرت فيه بعد الانتهاء من قراءة الرواية أن طلبتُ من زوجتى فى أول زيارة أن تشتريها وتحتفظ بها لى فى البيت حتى أخرُج .. وكنوعٍ من رفع معنوياتها، قلتُ لها “هل عندكِ شكٌ أننى سأخرج من هذا المعتقل ذات يوم بإذن الله؟” .. وكنوعٍ من رفع معنوياتى، أجابتنى “ليس عندى ذرة شكٍ” .. فتماديتُ “عندما أخرج من هذا المعتقل سأطلب من إبراهيم عبد المجيد أن يشرفني بكتابة إهداءٍ عليها مثلما اعتدت مع أصدقائى من المبدعين .. وسأعيد قراءتها فى مناخٍ مختلف”.
لم يُخَيّب الله رجاءنا .. وخرجتُ .. وشَرَّفَنِى إبراهيم عبد المجيد بإهداءٍ راقٍ وجميل .. إهداء المُبدع بخط يده يضاعف قيمة الكتاب فى مكتبتى عند تقسيم التَرِكَة ذات يوم(!) .. وقد بدأتُ الآن إعادة قراءة الرواية من جديد بزاوية رؤيةٍ مختلفة .. وهى من الروايات التى لا تستطيع أن تختزل فيها كلمة .. ولَم يكتَفِ أخى إبراهيم بذلك وإنما أهداني عدداً من مؤلفاته التى لم أسعد بقراءتها من قبل .. ما يعنى ابتعادى عن قُرَّائى الأحباب فترةً قد تصل إلى أسبوعين .. مأسوراً فى سجن إبراهيم عبد المجيد الاختياري .. مُكَّبلاً بكلابشاته الحريرية .. فاعذروني ولا تلومونى .. لوموا إبراهيم عبد المجيد.
مهندس/ يحيى حسين عبد الهادى