يحيى حسين عبد الهادي يكتب: القَفَصُ
﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ – سورة يوسف.
تَأَّثَرَ كثيرٌ من الأحباب داخل قاعة المحكمة وخارجها مِن دخولي للقفص بعد أن غِبْتُ عنه عامين .. وكُنتُ قد عِشتُ فيه قبلهما حوالي ثلاثة أعوامٍ ونصف .. لا تحزنوا .. هي أَوْسِمَةٌ يُشرفنا الله بها دون أن نسعى إليها.
لم أكن وحدي في القفص .. كان معي مُتهماتٌ ومتهمون في قضايا آداب وسرقة وحوادث سيارات .. لعل حَشْرِي مع هؤلاء هو ما أسَالَ دَمْع الرفاق في قاعة المحكمة .. أمَّا أنا، فما أحزنني هو أنهم كُلّهم من الشباب .. وهو ما يَعكِسُ ضَياعاً وانهياراً وتَفَّسُخاً اجتماعياً كبيراً لأجيالٍ صاعدةٍ، مُرَّشَحاً للتزايد مع استمرار السياسات التي أدَّتْ إليه.
قُلتُ للأحباب الذين اندفعوا أمام القفص يُطَّيِبون خاطري قبل الحُكم (القفصُ قد يُؤلمني ولكنه لا يعيبني .. هِيَ أثمانٌ ندفعها دفاعاً عن حق وانتقاداً لباطل .. وهناك مَن دَفَعَ ما هو أغلَى من الحرية .. الروح).
وقلتُ لمن تحشرج الكلامُ في فَمِه مُعَّبِراً عن شعوره بالإهانة للعجز عن إخراجي من هذا القفص (هَوِّنْ عليك يا أخي .. كُلُّ مَنْ لديه إحساسٌ وضميرٌ وحُبٌّ لهذا البلد مَعَنا في القفص، وإن بَدا خارِجَه، بمن فيهم أَنْتَ .. هذه القضبان التي تفصلنا لا مَعنى لها .. فَكُلُّنا في قفصٍ كبير).
ما إنْ نَطَقَ القاضي بالحكم سنة حبساً مع الشُغل وإيقاف التنفيذ ثلاث سنوات، حتى اندفع المُحِّبُون مُهنئين بخروجي من القفص إلى البيت، ومُلِّحين في الرجاء بأن أتوقف تحت سيف إيقاف التنفيذ (٣ سنواتٍ!) إشفاقاً عَلَىَّ من العودة للقفص مرةً أخرى.
يا أحباب .. أَتَوَّقَفُ عن ماذا؟ .. الحُكمُ يُحَّذِرُ من العودة لنشر الأخبار الكاذبة .. وهل نَشَرْتُ خبراً كاذباً واحداً من قبل؟ .. لقد حُكِمَ عَلَىَّ قبل ذلك بالحبس ٤ سنوات بنفس التهمة بسبب مقالٍ قُلتُ فيه إن ما حدث في يناير ٢٠١١ كان ثورةً .. فهل كان هذا خبراً كاذباً أَمْ رأياً، من حقِّ أيِّ إنسانٍ أن يُعلنه (أو يختلف معه)؟.
ثُمَّ إنني لا أكتُبُ .. هي زفراتٌ أتنفسها على صفحتي .. فهل أَتَوَّقَفُ عن التنفس؟.
ومع ذلك، اطمَئِنوا .. أنا ممن يلتزمون بتنفيذ أحكام القضاء حتى لو لم يَرضَ عنها .. أَعِدُكُم أنني (كَعَهْدِكم بي) لن أنشر خبراً كاذباً .. وإلا لكان لكم أن تحاسبوني قبل الخصوم .. قضاياي (كانت، ولازالت، وستستمر) تتركز في محاربة الفساد وكل ما من شأنه الإضرار بهذا البلد أرضاً وشعباً ومكانةً، وخَدْشِ كرامة أبنائه والانتقاص من حريتهم .. وكُلُّها قضايا لا تخضع لإيقاف التنفيذ.
أَمَّا أن يُرادَ لي أن أصنع بِيَدَيَّ قفصاً أنكمشُ فيه صامتاً خوفاً من اتهامي بالباطل، فهذا ما لا أستطيعه .. أنا أدعو لتحطيم الأقفاص التي تصادر حرية غيري .. فكيف بالله عليكم تنصحونني أن أصنع لنفسي واحداً منها؟!!.