وائل توفيق يكتب: التشابه والتضاد.. حقوق العمال بين الحقبة الناصرية والوقت الحالي (2)
في ظل الأجواء المحملة برياح التغيير والثورة؛ عجزت القوى الجماهيرية أن تقتنص الفرصة، وتمثل البديل للنظام المتهاوي، لم يكن أحد يتوقع أن يأتي التغيير في منتصف 1952 على يد حفنة من الضباط الصغار في الجيش المصري. ولكن هذا بالضبط ما حدث، وكان هذا دليلاً على العجز الذي أصاب الحركة السياسية والجماهيرية.
لم يكن الجيش المصري في 1952 بأي حال معقلاً من معاقل الحركة الوطنية، ولم تكن منتشرة به الأفكار السياسية الوطنية على مختلف اتجاهاتها التي كان يموج بها المجتمع آنذاك، بل كان كأي مؤسسة عسكرية في المجتمعات الطبقية جهازًا وأداة للطبقة الحاكمة في الحفاظ على سلطتها، وكانت الأفكار المسيطرة على ضباطه هي أفكار ككل الطبقة.*
تكون تنظيم الضباط الأحرار في عام 1949، كرد فعل للهزيمة القاسية التي تلقاها الجيش المصري في حرب فلسطين عام 1948، وقد اجتذب التنظيم إلى صفوفه حتى يوم الاستيلاء على السلطة ما لا يزيد على مائة ضابط من صغار السن والرتبة، وكلهم تقريبًا من أبناء الطبقة الوسطى الذين دخلوا الكلية الحربية في 1936 وما بعده، حيث تبنى تنظيم الضباط الأحرار الأيديولوجية الوطنية؛ المنحازة للطبقة الوسطى بكل غموضها ومثاليتها، وكجناح عسكري لوطنيي الطبقة الوسطى.
فقد حققت حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952؛ التغيير الذي أرادته الطبقة الوسطى للوطنيين البعيدين عن صفوف أجهزة القمع، إذ أتي فوقيًا ومن أعلى ليقطع الطريق على حركة الجماهير المتصاعدة، وقد حرص الضباط الأحرار أنفسهم على الطابع المعزول لحركتهم أشد الحرص.
وفور نجاحهم في الإستلاء على السلطة أصدر التنظيم بيانا يحظر فيه المظاهرات تمامًا ويطمئن كل القوى على مصالحها في ظل النظام الجديد، وبعد أسابيع قليلة أصدرت محكمة عسكرية شكلتها السلطة الجديدة حكمًا بالإعدام على عاملين “خميس والبقري” كانا من ضمن قيادات مظاهرات عمالية في شركة الغزل بكفر الدوار، على الرغم من أنها أيدت حركة الجيش وطالبت ببعض المطالب الاقتصادية! لم تكن هذه ثورة اجتماعية مطلقًا وإنما كانت تحقياقً لحلم الأقلية؛ الذي أتى ليحقق ما عجزت القوى التقليدية للبرجوازية عن تحقيقه: “الإصلاح الاجتماعي والاستقلال السياسي”.
لم تكتشف السلطة الجديدة طبيعة دورها وحقيقة مهمتها دفعة واحدة، فلقد ظلت لفترة معتقدة أن عناصر البرجوازية التقليدية قادرة على أداء مهمتها التاريخية، خاصة في إزاحة طبقة كبار الملاك بالإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952، ولذلك توددت إلى بعضها فأعطت لعلي ماهر رئاسة الوزارة، ولعبد الرازق السنهوري مهمة صياغة القوانين الجديدة، ولذلك أيضًا حاولت تشجيع الرأسماليين المصريين والأجانب على الاستثمار والتراكم، ولكن الضعف المستحكم للبرجوازية المصرية وتوجسها من السلطة الجديدة، وتناقضات التطور الرأسمالي للدول المتخلفة في عصر الإمبريالية، دفعًا الرأسماليين إلى الإحجام عن تحقيق طموحات الحكام الجدد في خلق مجتمع صناعي متقدم، وهنا بدأ الصدام بين الرأسمالية التقليدية الفردية وبين سلطة يوليو، وقد أعطى الصدام قوة إضافية بعدما امتنعت الإمبريالية الأمريكية عن تمويلي مشروع التنمية والتصنيع الذي طمح الحكام الجدد في تحقيقه.
في يناير 1957؛ تحديداً بعد حرب 1956 صدرت قرارات تأميم للبنوك وشركات التأمين والوكالات التجارية، وهي القرارت التي أصبح بمقتضاها من حق المصريين وحدهم العمل في تلك المجالات، ولتدارك الموقف، ولمواجهة هروب الرأسماليين التقليديين، نبتت فكرة التخطيط في رؤوس عناصر السلطة الناصرية، إذ أنشئ مجلس التخطيط الأعلى ولجنة التخطيط القومي والمؤسسة الاقتصادية، كان الهدف هو دفع التراكم الرأسمالي للأمام في مرحلة بدأ فيها أن الرأسمالية غير قادرة على التوسع وتطوير قوى الإنتاج.
جاءت فكرت التوسع في عملية التصنيع؛ كفكرة في مواجهة عمليات هروب روؤس الأموال لمستثمري عصر مصر الملكية، بغرض التقدم في عمليات التنمية الاقتصادية، فبعدما أظهرت أمريكا إنحيازها للقوى المناهضة لعبد الناصر ونظامه، توجهت سلطة الظباط الأحرار إلى المعسكر الشرقي (الإتحاد السوفيتي) لمساندته في التنمية، وبدأ في أصدار الدولة سلسلة من القوانين سميت بالقوانين (الاشتراكية)، كتخصيص 25% من أرباح الشركات للموظفين والعمال، إشراك الموظفين والعمال في مجلس إدارات الشركات، تأميم 149 شركة، تحديد ملكية الأفراد في الشركات بما لا يزيد عن 10 آلاف جنيه، إسقاط التزام مرفق النقل العام، تخفيض الحد الأقصى لملكية الأرض إلى 100 فدان… الخ، ونهج عبد الناصر إستراتيجيته لتنمية مصر (رأسماليًا) عن طريق سياسة الإحلال محل الواردات والتي تمثلت في: “غلق السوق في مواجهة منافسة السلع الأجنبية، تعبئة الموارد في يد الدولة لتقوم بدور أكبر صاحب عمل لدفع التصنيع، وتوسيع سوق تصريف المنتجات المحلية”.
ثم كان من الضروري ضرب كبار الملاك؛ فقام بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، والعمل من أجل رفع مستوى معيشة المواطنيين، مما يسهم في توسيع السوق، كما رفعت شعارات الوحدة العربية للنفاذ إلى أسواق الدول المجاورة.
يعلم كل عامل من خلال تجربته المريرة، تعرضت الطبقة العاملة المصرية في العقود الأخيرة لأشرس الهجمات التي واجهتها في تاريخها. فتحت شعار “الإصلاح الاقتصادي” مارست الدولة – متضامنة مع ومعبرة عن الرأسماليين الأفراد – سياسة تكثيف الاستغلال بمعناها المباشر الفظ، وبالرغم من أن تلك السياسة تمتد لتشمل كل أوجه الحياة المادية للعمال والفقراء، من صحة وإسكان ومواصلات ومرافق وخدمات، إلا أن مجالها المركزي – كما أن نقدر – كان هو تقليص الأجور بأقسامها المختلفة.
تعد قضية الأجور في مصر واحدة من الأولويات، خصوصاً بعد أن تضائلت قدرتها الشرائية، وأصبحت إنعكاس حقيقي للتدهور الذي أصاب حقوق الطبقة العاملة المصرية، كما أصبحت خريطة الملكية للأراضي الزراعية، وكذلك إرتفاع تكاليف الزراعة من إيجارات وتقاوي وأسمدة ..إلخ، وعدم تمكن الغالبية العظمى من المزارعين المصريين من ممارسة مهنتهم، إنعكاس حقيقي لما آلت إليه أوضاع الفلاحين وأسرهم.
“ويا ميت ندامة على شعوب ثورتها يقوم بها غيرهم”… لا يمكن لأي سلطة (مهما كانت درجة عدائها أو تناقضها مع الإمبريالية) أن تنتصر على الإمبريالية وهي تقهر الجماهير وتحرمها من أبسط حقوقها السياسية والنقابية.. فالجماهير المنظمة والتي تتمتع بحريتها السياسية حقًا هي الوحيدة والجديرة بالمواجهة والانتصار على الإمبريالية.
وبعد هزيمة الجيش في 1967؛ كان لابد على نظام الحقبة الناصرية من قمع المظاهرات، وفصل الطلاب من الجامعة وتشريدهم، واحتواء قيادات الطلبة داخل أروقة التنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
أما ما كتبه النظام الناصري بصفحات “الميثاق الوطني” من عبارات: “إن حرية الوطن لا تنفصل عن حرية المواطن، وإن الاشتراكية والديمقراطية هما جناحًا الحرية، وأن حرية رغيف الخبز ضمان لابد منه من أجل ضمان حرية تذكره الانتخاب، وأن الحرية (كل الحرية!!) لجماهير الشعب، ولا حرية لأعداء الشعب”، كمثيلها أعتقد جميعنا سمعها مؤخراً حتى لو بصياغات أخرى، فلم تجدي هذه العبارات نفعاً ولم يكن لها أثر في الواقع ولا في الممارسة، لقد كان العكس هو الصحيح دائمًا، وكانت الوصاية والاستبدالية والقمع للجماهير هي الواقع حينها والآن.
فالحكام كانوا ومازالوا يخشون من مظاهرات طلابية، أو صرخات مظلومين يأنون بسب تمادي وبطش أيادي الظلم، ويخافون من وصول إستغاثتهم إلى أوساط عمالية يعرفون جيداً مدى ما آلت إليه الأمور، وحقيقة موقف الجماهير من وجودهم في السلطة، ذلك لأن الطبيعة الاستبدادية والديكتاتورية للنظام الحاكم ما زالت قائمة وراسخة، وجيوش القمع اتسعت وتعددت وأجهزة القمع أصبحت أكثر وحشية.