هشام جعفر يكتب: قضية منار الطنطاوي.. بين بوس الرأس وأيمن صاحبي
لم أتعود أن أكتب في قضية خاصة إلا إذا كنت قادرا على أن أحوّلها لشأن عام، وهذه ليست تقاليد جديدة بل من ميراث الحركة النسوية العالمية التي جعلت من “الشخصي سياسة”، وأفضل تعريفات السياسة عندي هو تحويل الخاص إلى عام.
قضية منار الطنطاوي -زوجتي- هي قضية أستاذة جامعية في تخصص قليل من يعتني به، تفانت في عملها لأكثر من ربع قرن، واعتنت بتطورها الأكاديمي والعلمي حتى نالت درجة الأستاذية ورئاسة القسم، ولكن لأن أحوال مؤسساتنا العامة وفي مقدمتها الأكاديمية قد أصابها تدهور وانهيار شديدين صارت الأستاذة الأكاديمية المتميزة التي يشهد لها طلبتها بالتقدير والاحترام وزملائها بالجدية، والتي لم تتعرض كل هذه المدة للوم أو تأديب محرومة من حقوقها كافة:
ـ إحالة إلى تحقيقات لا تنتهي (حتى الآن أربعة).
ـ مجالس تأديب تفتقد إلى أدنى درجات الالتزام بالقانون واللوائح.
ـ رفض -حتى الآن- لتطبيق حكم مجلس الدولة بتعيينها في درجة أستاذ وما يترتب عليه من آثار.
ـ حرمانها من رئاسة القسم ووكالة المعهد التكنولوجي العالي بالعاشر من رمضان -فرع السادس من اكتوبر، وتعيين من هو أقل منها درجة علمية وكفاءة مهنية… إلخ.
فلماذا كل هذا؟
العميد السابق عثمان محمد عثمان قال لها صراحة وبمنتهى الوقاحة: “إنكي الأحق لكن لو اشتكيت في الوزارة فإنهم سيقبلون رأسي”، وهو بذلك يشير إليها مهددا أنها زوجة العبد الفقير إلى الله والذي يفتخر بأنه معتقل سابق لمحبته لهذا الوطن.
أما العميد الحالي، جمال هاشم، فإنه وفي أول لقاء له بعد توليه المنصب يرى أنه قادر على أن يفعل ما يريد حتى لو خالف القانون لأن “أيمن صاحبي”، ولمن لا يعرف المقصود بأيمن فهو وزير التعليم العالي أ.د. أيمن عاشور.
لكن هل تقف المسألة عند تقبيل الرأس أو مصاحبة الوزير أم أن الأمر كاشف لمجمل أوضاعنا العامة؟ -دعونا نرى
أولا: المؤسسة الضيعة
ذكر لي أحد الصحفيين الكبار الذي يتسم بالنزاهة أنه اشتكى لرئيس مجلس إدارة المجلة التي تصدرها إحدى المؤسسات القومية العريقة؛ اشتكى إليه ضعف المرتب خاصة وأنه ترك الخليج من أجل أن يتولى هذا المنصب، فصعق من الرد إذ قيل له نحن اقطعناك هذه المجلة لتجني من ورائها أرباحا كبيرة.
وهكذا تحولت مؤسساتنا العامة إلى اقطاعيات تمنح وتهب ولا يحكمها منطق الولاية العامة التي لها اشتراطات ومواصفات.
جرى إقطاع المعهد، وهو بالمناسبة أول وأقدم معهد هندسي أهلي تم إنشاؤه عام ١٩٨٨، وقد حاكى مؤسسوه أفضل النظم التعليمية. تم إقطاع المعهد في عهد مبارك لقريب الست ـابن عمها- وقد جرت هذه البدعة -ولا أقول السُنة- منذ ذلك الحين؛ فمع تعاقب النظم السياسية بعد يناير ٢٠١١ تم تعيين كل عميد وفق طبيعة كل نظام سياسي.
فمع الإخوان كان العميد إخوانيا، ومع تعاقب وزراء التعليم العالي تم تعيين من هو محسوب عليهم، حتى أن أحد الوزراء عندما خرج من الوزارة طلب من عميده الذي عينه أن يقدم استقالته ولم يكن قد أكمل عاما.
العميد الأخير -وهو لم يتول من قبل منصبا أكاديميًا في حياته- لا يرى بأسا بأن يجاهر بأن أيمن صاحبه، وهو لم يتحصل على أستاذيته إلا قبل بلوغه المعاش بسنتين.
تتحول المؤسسات العامة من هياكل تؤدي أدوارها بكفاءة إلى شبكات امتياز ومصالح ومزايا يتمتع بها البعض بحكم ما تربطه من علاقات وآواصر عائلية أو شلة أو دفعة، ولا تدار المؤسسات بالكفاءة والريادة المطلوبة، خاصة أنه على مدار السنوات المتعاقبة قلّت الكفاءة والمهنية بشكل متصاعد ومن شأن هذا الأمر أن يصيب مؤسساتنا العامة بالتحلل والتآكل، وهو وضع خطير على أي نظام سياسي؛ فالكفاءة والإنجاز أحد معايير الشرعية.
ثانيا: الطفل المعجزة الذي لا تنضب معجزته أبدا
في كل مؤسسة من مؤسساتنا العامة لابد أنكم صادفتم طفلا معجزة، وهو عادةً بسِمات واحدة: قلة في الكفاءة والموهبة، وقدرة على انتهاز الفرص والاستفادة من الأحداث، وتميز في المحلسة، وقدرة على التقرب من الرؤساء، والتلصص على الزملاء، وهِمة في كتابة التقارير أو ما نطلق عليه دور العصفورة، وحبذا لو استطاع أن يقيم علاقة مع أحد المؤسسات التي يطلق عليها سيادية… هنا فإن ميزانه يكون راجحا دائما ويجعل معجزته أبدية لا تقتصر على الطفولة بل تدوم بدوام رضاء أباه الذي في الجهاز عنه.
في مؤسسة أكاديمية مثلا يمكن لمُدرس صنايع وبعد الأربعين أن يُعين في وظيفة أكاديمية، ويمكن أن يترقى فيها بأبحاث مستعارة من زملائه أو مدفوع فيها مقابل، لا بأس، ويمكن أن يكون وكيلا أو عميدا أو رئيسا للقسم أو عضوا لمجلس الإدارة بمهاراته الفذة وإمكانياته الخارقة في نسج العلاقات وتقديم الهدايا حتى لو خرج إلى المعاش أو تولى منصبه لدورتين بما يخالف القانون.
كل هذا ليس مهما لأن معجزته مخلدة أبدية دائمة، ولكن مؤسساتنا العامة هي ما يصيبها التآكل والعجز وتنعدم كفاءتها.
ثالثا: القانون صنم العجوة الذي نأكله
ليس عندما نجوع ولكن دائما أبدًا وبلا توقف أو خجل، ولا نحتاج في سبيل ذلك إلى مبررات ليس لعدم القدرة على توليدها بالحق والباطل ولكن لأن القانون مهدر عند الموظف العام. هو وُضع فقط ليستخدمه من في المنصب الأعلى وكيفما يريد، أما من هو قادر أو يقوى على التفلت منه فلا يعدو أن يكون مجرد ذكرى، ويمكن استدعاؤه في أوقات دون أخرى.
إن أخطر ما يجري للمصريين هو تسرب الإحساس لديهم بتآكل فكرة القانون؛ أي وجود معايير يمكن أن يحتكموا إليها حال الخلاف، ومن شأن ذلك أن تشيع العنف في المجتمع، وتجعل الثقة بينهم منعدمة.
هل معقول أن ينص القانون صراحة على استمرار عضو التدريس في عمله الأكاديمي بعد سن المعاش دون أن يتولي منصبا إداريا؛ وتكون جل الوظائف في مؤسسة ما من العميد وأنت نازل، فوق سن المعاش.
وهل من المعقول أن يصدر حكما من مجلس الدولة لصالح أحد أعضاء التدريس ولا يتم تنفيذه؟
وهل معقول أن تجرى التحقيقات ومجالس التأديب برغم التلاعب بها دون مراعاة لأبسط الإجراءات التي نص عليها القانون؟
وهل يعقل أن يتخلى المحقق أو عضو مجلس التأديب عن حياده مقابل بدل جلسة بآلاف معدودة أكلها التضخم؟
وهل يعقل أن استاذا تم انتدابه من أحد كليات الحقوق العريقة بعد أن يتم تحقيقه ينتظر توجيهات السيد العميد فيما ينبغي أن يفعل؟
هنا أنا أتحدث عن بقايا الضمانات التي توفرها القوانين التي صنعت على أعين الحكومات وفي غياب مجالس نواب فاعلة تشرع، أو إعلام حر ومستقل يراقب.
ولكن بين تقبيل الرأس وصحوبية أيمن فالكل مهدر مهدر.