هزمته أزمة الصحافة قبل أن تهزمه كورونا.. “محمد حسونة” بائع الصحف الذي اختار الرحيل معها وبكته أرصفة قصر العيني (بروفايل)
كتب – محمود هاشم
مع مطلع كل صباح، يجلس محمد حسونة الجزار “محمد جرايد” منتظرا زبائنه المعتادين على شراء الصحف من “فرشته” الشهيرة في شارع قصر العيني، بابتسامة لم يغيرها الزمن ولم يبدلها اختلاف أذواق القراء باختلاف الأحداث السياسية التي مرت بها البلاد طوال 25 عاما هي فترة عمره في المهنة، متسامرا معهم تارة في حركة البيع والشراء، وأخرى محللا الأوضاع كصاحب رؤية اكتسبها من عمله ومتابعته اليومية للصحف، ولما يتملكه من اطلاع واسع على فنون المعرفة الصحفية التي تقع بين يديه يوميا، وفي أخرى يتناقش مع الصحفيين الشباب وكبار الكتاب الذين يفد بعضهم إليه دوريا لسؤاله عن ردود الأفعال وتوزيع الصحف وتعليقات جمهور القراء، وملاحظاته بشأنها، وهو الذي لم يخط مقالا أو خبرا طوال حياته، لكن خبرته أهلته ليكون بوصلة في طريق أبناء المهنة.
في 26 مايو، جرت قدما الناقد الفني الكبير عصام زكريا إلى تقاطع قصر العيني مع المبتديان، لإلقاء نظرة على “فرشة” الصحف والكتب التي تقبع هناك منذ أن عرفت عيناه المكان، على بعد خطوات من “روز اليوسف”.
كانت “فرشة” الصحف خاوية، ما أثار استغراب زكريا – حسبما روى في منشور له – فهي دائما مفتوحة للمارة، نهارا وليلا، في عز الحر أو البرد أو المطر، حتى في عز أيام الثورة والمظاهرات، وفي زمن الحرائق، كانت دائما هناك، مثل بوصلة للمكان، يلقي نظرة على الصحف حتى لو لم يشتر، ويسمع بعض الأخبار، ويلتقي عندها بالصدفة بالزملاء والأصدقاء.
بعد يومين، علم زكريا أن حسونة، أشهر باعة “الفرشة”، باغته الموت متوفيا إثر إصابته بفيروس كورونا المستجد، الذي أصاب أفراد أسرته أيضا، بعد انتقال العدوى لهم من إحدى جاراتهم.
يضيف: “محمد صاحب ابتسامة جميلة لا تزاول وجهه في أحلك الظروف، ظللت أناديه أشرف، وهو اسم بائع آخر كان يعمل معهم، لسنوات، وهو يبتسم دون أن يصحح لي الخطأ، بعد موته أفكر في السيدة الطيبة التي تتناوب الوقوف على الفرشة معه، ولم أسألها يوما عن اسمها، أو عن مدى قرابتها بحسونة، وأفكر في الصحافة التي تحتضر، والفرشة الخاوية التي كانت يوما تفيض بالصحف والمجلات والكتب، وتعج بالقراء على مدار اليوم، من رواد محطة الأتوبيس المجاورة صباحا، وحتى المثقفين من رواد الصحف الطازجة فجرا، اليوم لم يعد في شارع القصر العيني باعة صحف”.
لم تغب أقدام رواد المؤسسات الصحفية القومية والخاصة في الشارع الشهير وتقاطعاته عن فرشة محمد جرايد، حتى انتظار صباح يوم جديد يعرض فيه “بضاعته الطازجة”، أو يحتفظ بنسخة من أعداد سابقة لزبون قديم، تجد رؤساء تحرير وكتابا ومحررين في روز اليوسف والمصري اليوم والشروق ودار الهلال والدستور، يحظون بصداقات معه ويتبادلون الحديث عن المبيعات وأذواق الجمهور، ليستخلصوا من استبيانه الشعبي مادة تواكب تطلعات القراء واهتماماتهم.
وكان الكاتب الصحفي الكبير عمار علي حسن، يمر على فرشة محمد حسونة طوال 16 عاما من فترة معرفتهما، واصفا إياه بأنه أحد مباهج الحياة بحديثه الطيب، وفهمه لواقع الكتابة وأصناف أهلها، ووعيه السياسي، وذكائه الاجتماعي.
احتفظ “محمد جرايد” بكتب ومجلات طلبها عمار بانتظام، ويبيع بعض كتبه، وبحسب ما يحكي عمار في منشور له عبر حسابه على “فيسبوك”، كان بينهما دوما حديث عن لافتة تكريم ضخمة من البلاستيك المقوي أخذها حسونة منه بعد حفلة أقامها أصدقاء الكاتب الصحفي لحصوله على جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2010، كي يغطي بها الصحف والكتب وقت المطر، وبين حين وآخر كان يشكو من اللافتة التي يأكلها الرذاذ والغبار والزمن، ويتمنى تكريما قريبا كي يحصل على أخرى، وتابع: “لا أتخيل أنني سأمر على المكان ولا أجدك يا صاحب الوجه الصبوح المشرق بابتسامة تبعث الألفة والبهجة والاطمئنان”.
ببصيرته التي شكلتها سنوات عمله الممتدة في المهنة، كأقدم بائع جرائد في المنطقة، اعتاد “محمد” تقليب الصحف بين يديه، ليستنبط – من مجرد مانشيتاتها – أيها سيحظى سيجذب عين المشتري ويدفعه لاقتناء نسخته منها، وأيها ليس في يومه، فيرصها بحرفة خبير من الأهم للأقل رواجا، بل يمتد ذلك أحيانا لترشيحه إحداها للقراء توفيرا لوقتهم في البحث والانتقاء، مستعينا بمفرداته الأجنبية البسيطة ووجهه البشوش في التعامل مع زبائنه الأجانب القاطنين في المنطقة، ما أهله ليحظى بسمعة لها ثقلها بين جمهور الصحفيين أنفسهم.
المارون في “قصر العيني” وسكانه ومرتادوه يعلمون جيدا أن محمد حسونة لم يكن مجرد بائع جرائد يفترش بضاعته من الصحف والمجلات والكتب القديمة والحديثة على ناصية الشارع، لكنه تعدى ذلك إلى أن بات ذاكرة حية، تكشف عن وجهات القراء وتفضيلاتهم، إلى جانب ثقافته الشعبية التي اكتسبها بحكم اختلاطه الدائم بطرفي المهنة الكتاب والزبائن.
يعرف الناشط السياسي خالد عبدالحميد، محمد بائع الجرائد منذ ٢٠٠٦، كان يشتري منه الصحف 4 سنوات متتالية حتى 2010، ويقول: “كنت بفطر معاه مرة في كل رمضان، أعدي عليه وأوقف التاكسي وأنزل افطر معاه على فرشة الجرايد معملتش كده السنادي علشان اللي حاصل، شاب طيب ومجدع ودمه خفيف، عرفت أنه اتوفى، سلام يا محمد”.
لم تكن علاقة حسونة بفرشته مجرد علاقة بائع بمصدر رزقه بل بدا كأنها يعاملها كأحد أبنائه، يمسك بقطعة قماش صغيرة ليزيل عنها غبار الطريق، وفي أوقات الطقس المتقلب يغطيها بإحكام موفرا لها الحماية والأمان، تساعده والدته وزوجته أحيانا في ترتيب الصحف والمجلات وبيعها، وهي العائلة التي توارثت المهنة على مدار عقود.
قضى حسونة أيامه الأخيرة متأثرا بأزمة تراجع معدلات توزيع الجرائد، الذي كان مصدر معلومات المؤسسات الصحفية بشأنها، متخوفا من إزالة مصدر رزقه في أي وقت ضمن أعمال الإزالات لـ”الفرشات المشابهة” في المنطقة.
وكان يمني نفسه أن تتحول الفرشة الصغيرة إلى “كشك” مرخص، مثل أكشاك السجائر التي تملأ الشارع والمنطقة، لكنه قضى السنوات الأخيرة في محاولة إيقاف البلدية من هدمها، كما حدث لجميع أكشاك وفرشات الصحف بالشارع، والآن بات مكانها خاويا مثل راكية نار تحولت إلى رماد، على حد تشبيه عصام زكريا.
منذ أيام قليلة، كان الشاب يعد نفسه لتجديد مدفن والده، إلا أنه لم يكن يعلم أن القدر لن يمهله لتحقيق أمنيته الأخيرة، لتفجع وفاته قلوب محبيه من الصحفيين والقراء، وتفقدنا فصلا هاما من ذاكرة المهنة.
الرحيل المفاجيء لحسونة، بدا كأنه إشارة إنذار للأوضاع الصعبة التي يعانيها وأقرانه في سبيل الحفاظ على أنفسهم ومهنتهم، لتنطلق دعوات للمطالبة بإنشاء نقابة لبائعي الصحف أو تدشين رابطة لهم تتبع نقابة العاملين في الصحافة، مع دعم أسر وأبناء المتوفين منهم باعتبارهم من الفئات الأكثر تضررا من إجراءات الحظر بسبب فيروس كورونا، ليبقى تنفيذه أملا مشروعا لم يدركه “محمد جرايد” في حياته، لكنه بالتأكي سيسعد به وإن كان في مأواه الأخير.