نظرية المطرب الثوري.. جدل بسبب محمد منير بعد حفل “أونلاين” (حدوتة مصرية عن الفن والذكريات)
كتب – أحمد سلامة
بنتولد طاهرين
بنتولد شبعانين
بنتولد متلهفين.. على صدر أم وكتف أب مرتاحين
في أسوان، وبالتحديد بقرية منشية النوبة، في العاشر من أكتوبر عام 1954، ولد صاحب الصوت العذب، والذي تحول بمرور السنوات إلى أيقونة فنية وعلامة بارزة من علامات الغناء المصري والعربي.. إنه “الكينج”، محمد منير، الذي تركت أغنياته بصمة كبيرة في عالم الفن، خاصة ما نقله عن التراث النوبي.
مع بناء السد العالي، ارتحلت أسرته في البداية إلى مدينة أسوان ثم انتقل إلى القاهرة، لكنه ظل على تواصله الدائم مع جذوره في أقصى الجنوب.. وهو ما ظهر جليًا في تأثره بتقديم أغنياته وفقًا لـ”السلم الخماسي” الذي يميز الفن النوبي والسوداني.
التحق منير بكلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان، وتخرج في قسم الفوتوغرافيا والسينما والتليفزيون، البداية الفنية الحقيقية له كانت عندما حاول التواصل مع مطربي منطقة النوبة، كي يغني أمامهم، وهكذا كان أول لقاء له مع الشاهر والمناضل الشيوعي النوبي زكي مراد، الذي استمع إليه وأعجب بصوته كثيرًا، حتى أنه طلب من الشاعر المصري العامي، عبد الرحيم منصور، أن يستمع إليه، وبعدها تعرف منير على المطرب أحمد منيب، الذي ساعده كثيرًا ودربه على أداء الأغاني بالألحان النوبية.
“بنتولد”، من أوائل ألبومات منير في عام 1978، بصحبة هاني شنودة، لم يحقق الألبوم النجاح المرجو، كانت الولادة متعثرة، لكن ذلك لم يكن حائلا أمام الاستمرار في الطريق.. سيستكمل طريقه وستسير معه أجيال تبحث عن التغيير، وعن شخصية مستقلة لها فنها الذي يعبر عنها.
كام عام ومواسم عدوا
وشجر اللمون دبلان على أرضه
وفينك، بيني وبينك أحزان ويعدوا
بينى وبينك أيام وينقضوا
شجر اللمون دبلان على أرضه
لم تكن أغنيات منير -على قدر غرائبية كلماتها- نخبوية، كانت تمس وجدان الجميع، كانت تمس ملح الأرض، تمس “شجر اللمون” الذي بات “دبلان على أرضه”.
في ألبومه “شبابيك”، عام 1981، نجح منير في إحداث ضجة كبرى، كسر كل الحواجز من خلال فلسفة غنائية خاصة، نجح كما لم ينجح من قبل، ووضع المطرب الشاب نفسه حينها ضمن قائمة أشهر المطربين، فقد حقق الألبوم مبيعات تدخل ضمن الأعلى في تاريخ مصر ثم اختير بعد ذلك أحد أفضل الألبومات في إفريقيا خلال القرن العشرين.
لفت منير الانتباه بشدة حين غنى لـ”المدينة” و “شجر اللمون” وأبدع في “الليلة يا سمرا”، الكلمات الجديدة والألحان المميزة والصوت العذب، فتح “شبابيك” جديدة أمام المستمعين، من خلال أغاني تحمل مسحة الوطنية، لكنها تنقل أوجاع الكثيرين، دون أن تفرض عليهم وصاية أو تحشدهم لشئ، لم تكن أغنيات “فوقية” تفرض وجهة نظر بعينها أو تطالب بتضحيات بلا مقابل.
بكلمات أغانيه الجريئة، وألحانه المختارة بعناية، وتحركاته على المسرح اتضح الخط الذي يسير عليه، خط ثوري لا تخطئه العين ولا تتجاوزه الأذن.. تلك الثورية الفنية التي سيطالب البعض بعد سنوات -ولو ضمنًا- بتحولها إلى ثورية سياسية.
أنا ابن كل اللي صانك
رمسيس وأحمس ومينا
كل اللي زرعوا في وادينا
حكمة تضلل علينا
ليه تسكتي زمن.. اتكلمي
ليه تدفعي وحدك التمن.. اتكلمي
وتنامي ليه تحت الليالي.. اتكلمي
من بين أبناء جيله، كان منير هو الأعمق أثرًا، وأقوى تأثيرًا، داخل دائرة الباحثين عن حلول لمشكلات الشأن العام، كانت أغنياته تحمل بُعدًا آخر للوطنية، بُعدًا ينشد الحرية.. وربما ألقى “الشيخ إمام” ظلاله على بعض مستمعي محمد منير، خاصة مع تقارب الفترة الزمنية بين وفاة إمام وصعود منير، فرأوا في منير امتدادًا لتلك القامة الفنية الكبيرة لكن بشكل مختلف.
أو ربما كان السبب في ذلك أن صعود منير كان في الفترة التي أعقبت قرارات الانفتاح وما سببته من غضب شعبي جارف، أو قد يكون السبب في ذلك تصريحاته التي قال في إحداها إن “الفنان بلا تمرد أو تحريض أقرب إلى التسلية، وأنا لن أكون مسلواتي مهما حييت”.
المهم، أن منير غنى للشارع والمهمشين فتحول بمرور الوقت في أنظار بعض المتابعين إلى رمز فني لأفكار وطنية تحررية.
يقول الشاعر مجدي نجيب في كتابه “من صندوق الموسيقى: زمن الغناء الجميل”: تنبأنا جميعا بأنه الجديد القادم من جنوب مصر لتجديد دماء الأغنية وخروجها من مأزق التكرار لكي تكون أكثر ارتباطا وتعبيرا عن الناس وحياتهم، لقد كان منير يختلف عن نجوم الفن في ذلك الوقت، أما الموضوعات فقد كانت مختلفة عن موضوعات أغنياتنا التي كانت متربعة ومستقرة حتى عام 1973.
لكن منير سيتحول بمرور الوقت في نظر بعض محبيه إلى مسلواتي.
تموت حته مني.. الأجراس بتعلن نهاية بشر من العباد
دي الحكمة قتلتني و حيتني وخلتني أغوص في قلب السر
قلب الكون قبل الطوفان ما ييجي خلتني أخاف عليك يا مصر
وأحكيلك على المكنون
عبر سنوات، تشابكت أصابع منير مع أصابع جيل جديد، جيل وليد يرغب في أن تكون له “حدوتة مصرية” مستقلة يكتبها بنفسه ليرويها لأولاده، سيرة ذاتية يكون منير جزءًا منها، مطرب المرحلة الذي تتجسد في أغانية الطموحات والأحلام.. العذابات والآلام.
تصاعدت ذروة التشابك بين منير و”الجيل الجديد” عبر أغنيته التي خرجت للنور عقب يناير 2011، “إزاي”، تلك الأغنية التي رأى فيها الكثيرون أيقونة الثورة، وهي الأغنية التي تراجعت حتى عادت للاختفاء مرة أخرى بعد الثورة.
التراجع لم يكن من نصيب أغنية “إزاي” فقط، وإنما كان هناك تراجعا تدريجيا ملحوظا صاحب مغنيها، فمحمد منير لم يعد هو محمد منير في نظر معجبيه.. ذلك الفنان “المتمرد” لم يبق كما كان.
أمس وعقب حفل أقامه منير عبر منصة “يوتيوب” مراعاة لقواعد عدم التجمع للحد من انتشار فيروس “كورونا”، شن العديد من المتابعين هجوما شرسًا على منير، بسبب ما وصفوه بـ”إنحيازاته السياسية” بعدما دعا للوقوف احتراما للجيش والشرطة، وهو ما وصفه جانب آخر من المتابعين بأنه مبالغة في غير محلها وفهما مغلوطًا وخلطًا للأدوار.
عن ذلك يقول، قال الحقوقي جمال عيد في تدوينة له عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، “لحد ٢٠١٥ تقريبا، كان لسه محمد منير، بعد كده بقى مزيج من مصطفى بكري على فريدة الشوباشي على ما تبقى من منير، يا خسارة منير خلص”.
بينما علقت إكرام يوسف قائلة “أنا ما باقدرش أفصل، لو الفنان مركز في فنه وما بيحشرش مناخيره في السياسة، ممكن أركز مع فنه، لكن طالما أعلن موقف سياسي يبقى لازم يتحاسب عليه قبل فنه لأنه بيستخدم فنه لخدمة انحيازه السياسي”.
في دايرة الرحلة طرق بينا تخلا
آه يا حبيب عمري وصحبتي وقمري
في دايرة الرحلة طرق بينا تخلا
آه يا حبيب عمري وصحبتي وقمري
أكرم إسماعيل، عضو حزب “العيش والحرية”، يقول “أنا بحب منير مش بس لأنه ظاهره و رصيد فني كبير.. لكن كمان لأن أغانيه جزء من رحلتي أنا الشخصيه.. فاكر أمي وأنا طفل وهي مشغلة شريط شبابيك معظم الوقت.. وفي لحظات العزلة والخوف الواحد محتاج يسمع الأغاني والصوت اللي بيفكرك بمشاهد كتير من حياتك الطيبة وبيستدعي خبرات مبهجة ووجوه ناس واحتفالات عبر سنين طويلة.. بيفكرك بجانب في الدنيا غايب.. جانب مبهج ومليان وعود.. سيبكم بقى هو بيقول إيه.. وجود منير حاجة عظيمة مش بس بقدر موهبته لكن كمان بالقدر اللي جمهوره الحقيقي اللي هو جماعات من الناس بتحب الفن ومتحيزة للحرية والمساواة بتلاقيه وتكتشفه تاني وتعمله من جديد.. لو الجمهور ده مش موجود في بلدنا مكنش هيبقي في منير”.
ملاحظة مهمة أبداها المحامي أحمد فوزي، في تدوينة له، قال في جزء منها “أنا معرفش يعنى إيه مطرب ثوري أو فنان ثوري في مجال الغناء، مصر لم تعرف أبدًا أبدًا هذا الفنان إلا الشيخ إمام و معه عم أحمد و عم زين العابدين فؤاد، لا نعرف أن محمد منير أو علي الحجار أو غيرهم قالوا إنهم مطربين ثوريين و مش معنى إن ربنا رزقهم بشعراء كانت بتكتب أغاني لهم بتشجع قيم معينة تحرض الناس على التفكير وقيم حداثة وإنسانية يبقى هما مطربين ثوريين”.
ويضيف “أتصور أن منير و بعض فنانين ارتبطوا بتيارات سياسية في وقت ما رأيهم فى يناير و موجاتها و مألها و السلطة الموجودة قريبة من التيارات دى و يتعاملوا ان الخصم الرئيسى الاخوان المسلمين و جماعات عنف مسلحة اسلامية و مش فارق معهم اى حاجة تانية بكرر لمرة المليون هما احرار و انا مليش ادخل و طالما لا يرتبط بتحريض على عنف و كراهية و صف المعارضين بالخيانة و العمالة و تشجيع القبض عليهم ملهمش فينا و لا لينا فيهم”.
تقول هالة هشام، عبر تدوينة، “هل يدين لنا منير بشئ؟ ربما يدين لنا بشئ بسيط، فقط بالصمت. كن هنا بصوتك، بأغانيك، لا تحاول أن تكون شخص آخر، جمهورك بسيط كما قلت سابقا، أو دعنا نصحح جمهورك من الفقراء، والطبقات المتوسطة المفقودة، فلا تحاول أن تخاطب أشخاصًا آخرين، نحن هنا أمامك، نفهم اللحن والأغنية، ولا يفهمها أي شخص آخر”.
فتح منير بابا كبيرا للجدل، للرأي والرأي الآخر، كما كان دائمًا طوال سنوات أبدع فيها وترك من خلالها أثرًا كبيرا، لكن السؤال الذي تركه منير حاليا هو “هل مازال هو الفنان المتمرد، أم تحول إلى مسلواتي؟”.