نحو مواجهة مبدئيَّة للجنجويد.. حين تتصرف بعض الأطراف بمنطق “استثمار الأزمة” وتتعامل بذات النهج “الميلشياوي”

بقلم / خالد محمود – صحفي متخصص في الشئون الإفريقية

تابعنا مأساة “اقتحام الفاشر” وما تلاها من جرائم غير مسبوقة من قوات الدعم السريع (الجنجويد) حرقًا واغتصابًا وإبادةً جماعية وقتلًا على الهوية، وفي حين كان وقوع الجرائم في فاشر السلطان ومحيطها بعد سقوط المدينة التاريخية هو الجديد، كان الفاعل هو ذاته الذي نعرفه منذ 20 عامًا، ويختبئ بعباءاته في تلافيف السياسة ليخرج كل مرة بشكل جديد . فالجنجويد الذي أصبح اسمه الدعم السريع، والذي يطالب البعض بتصنيفه “كمنظمة إرهابية” هو أقل من إضفاء هذه المسحة السياسية عليه؛ لأنه في المنبت تشكيل عصابي للتفزيع والترويع الاجتماعي قبل هذا التوصيف وبعده، مارس الإجرام والقتل والاغتصاب ضد مجتمع وأهالٍ ومدنيين وأبرياء عُزَّل لحساب مَن يدفع، وتخبَّط مُصالحًا ومتمردًا مع السلطات والحركات السودانية لهذا الهدف .

السؤال الآن بعد أزمة الفاشر، وبعد الحرب الأهلية التي شملت كل السودان فقتلت الآلاف وشردت الملايين من أهله، هل واجهت الأطراف السياسية المختلفة هذا الكابوس مواجهةً مجردة تستهدف إنهاءه؟ وهل انتهجت هذه الأطراف نهجًا مبدئيًا في هذه المواجهة؟؟

الإجابة المؤسفة – وإلى حدٍّ كبير – (لا).

فجميع الأطراف تصرفت – وبلا تحفُّظ – وبدرجات مختلفة – بمنطق “إدارة الأزمة”، وفي أحايين “استثمارها” لا بمنطق المواجهة الإيجابية واتخاذ موقف. الجميع بلا استثناء؛ الحكومة السودانية (حكومة الأمر الواقع)، الحركة الإسلامية (الكيزان)، المعارضة (صمود)، الجناح السياسي في ما يُسمى بحكومة الوحدة والسلام (تأسيس).

فالحكومة السودانية (حكومة الأمر الواقع)، ممثلة في مجلس السيادة، لم ترَ في الحرب واستمرارها مع الدعم السريع سوى طريقة للبقاء في السلطة، ومد وضعها الانتقالي بشرعية (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة )، ومناورة قحت (قُوَى الحرية والتغيير)، وتلغيم الطريق أمام أي عودة محتملة لحكم ثورة ديسمبر أو حتى لحكم مدني منزوع منه روح ديسمبر. ينعكس ذلك في مقاربتها لمواجهة الجنجويد في ثلاث نقاط كاشفة؛ الأولى هي الفصل التام بين جنجويد 2003 الذين ارتكبوا إبادة جماعية في دارفور راحَ ضحيَّتها 300 ألف شخص  في عهد البشير والذين تطالب المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمتهم، وجنجويد اليوم الذين انقلبوا عليها وتحاربهم، فتضفي على المجموعة الأولى حمايتها وتمنع تسليمهم للمحكمة الدولية، بينما تُشهِّر بالأخيرين وتدعو المجتمع الدولي لحصارهم… وكانما هناك جنجويد وجنجويد وكأنما أبو لولو ليس الوريث الشرعي لكوشيب.

أما الملمح الثاني للمواجهة الحكومية السودانية والذي يقلل من مبدئيتها، فهو اعتمادها على ذات النهج “الميليشياوي” الذي انتهجته حكومة البشير في الحروب وهو التحالف مع “ميليشيات”، وهو نهج متعارض مع شعار (جيش واحد شعب واحد) الذي ترفعه، حيث بلغ عدد الميليشيات التي تحالفت معها قرابة الـ 100 بحسب تقديرات إعلامية، من بينها تنظيمات جهادية مثل ميليشيا (البراء بن مالك)، وكانها تواجه جنجويد لتخلق 1000 جنجويد .

وأما الملمح الثالث الحكومي المُخلّ بالمواجهة المبدئية، فهو سماحها بتشكيلات ومنصَّات تبث دعاية عنصرية، مثل “منصة عبد الرحمن عمسيب” الذي يدعو إلى دولة “النهر والبحر” انفصالية، ويهاجم سكان الغرب، ويعزز دعوتهم للانفصال .

أما بالنسبة إلى الحركة الإسلامية وهي الطرف الثاني في المشهد السياسي، والتي لا أقصد بها المؤتمر الوطني المنحل فقط، وإنما المساحة الأوسع التي تشمل المؤتمر الشعبي، وتيار غازي سليمان، والتيار الإسلامي العرس العريض وأنصارهم في قطر وتركيا وخارج السودان، والتيار الأيديولوجي والإعلامي الأكثر اتساعًا من الحركي. يتصرف هذا التيار الذي صمت منذ ثورة ديسمبر بمنطق أن الحرب هي الفرصة الأخيرة لعودة الإسلاميين (الكيزان) إلى الحكم، وفي حين أنه يولول ليل نهار عن محاولات الإقصاء بعد ثورة ديسمبر، إلا أنه لم يمارس نقدًا حقيقيًا عن جرائمه حين كان في الحكم. فالحركة الإسلامية هي المسؤلة الأولى والأخيرة عن إعطاء الجنجويد الشرعية، والجميع يتذكَّر عندما ذهب قادة (اتحاد علماء المسلمين) الموجود في قطر بقضِّه وقَضِيضه إلى الفاشر أثناء المذابح الكبرى في 2003، ليصلي قادته: القرضاوي وسليم العَوَّا الجمعةَ في أبرز مساجدها؛ ليعطوا شهادة تبرئة للجنجويد من القتل والاغتصاب – والمذبحة جارية – وليقف العوَّا يومَها ليقول إن نساء دارفور قالوا: (غصبونا) وليس (اغتصبونا) لأنه لم يحدث اغتصاب في دارفور. هذه الحركة، بأجنحتها الإعلامية واسعة التأثير مطالبة اليوم بالاعتذار، ومطالبة في تبنِّي نهج شامل في المواجهة غير انتقائي كما يفعل إعلامها اليوم.

وأما الطرف الثالث في التعامل البراجماتي مع الأزمة فهي المعارضة السودانية، وتحديدًا (صمود) بوصفها النواةَ الأكثر تماسكًا، والتي أصدرت بيانًا بعد سقوط “الفاشر” لم يذكر كلمة ( دعم سريع) ولا مرة، معتمدًا صيغة غامضة وتعميمًا مُضللًا للحدث الجاري، تدعو فيه “كل الأطراف بالامتناع عن الانتهاكات”. المعارضة السودانية وبعض القوى الديسمبرية تتعامل مع الإدارة السياسية الحاكمة بمعادلات ثورة ديسمبر بينما السودان في حرب أقرب للوطنية، ونحن نتذكر ماوتسي تونج الذي كان يقود ثورة ضد الكومنتانج وتعرضت بلاده للغزو الياباني، فترك المواجهة الثورية مع السلطة المستبدة الى محاربة الغازي الأجنبي بتكتيك “السير منفردين والضرب معًا”، وما إن انتهت الحرب عاد إلى مواجهة الكومنتانج.

وأما الطرف الأخير في الأزمة، فهو الجناح السياسي الذي وفر مظلة للجنجويد فيما يُسمى “حكومة تأسيس”. لقد اختطف الجنجويد عبر هذا الغطاء شعارات “سودان جديد” و”رفض تهميش دولة 1956″ والإيمان بسودان عادل للمركز والهامش، وهي شعارات تتبنَّاها قطاعات واسعة من الشعب السوداني، بينما ترى فيها قطاعات أخرى أنها تستحق القراءة، لكن بالتأكيد هذه الشعارات لا يطبقها “قُطَّاع طُرق” ولا “مجرمو إبادة جماعية”، ومساحتها السياسية الممكنة هي السياسة لا الحرب، في ظل إيمان شعبي لا يتزعزع أن السلام هو الاحتياج الأهم للسودان.

في النهاية، أختم بمعلومة لا يمكن إلا أن تبعث على الحزن، ذكرها البروفيسور عبده مختار موسى في أحد كتبه، حيث أشار إلى أن “دارفور لم تشهد في ظل الحكم الأجنبي من 1932 إلى 1956 أي نزاعات، بينما شهدت في العام التالي للاستقلال نزاعين، كما شهدت في الأعوام من 1989 إلى 2003 في ظل حكم الإنقاذ 66 نزاعًا.”

هل كان الأجنبي أرحم على مجتمعاتنا من انفسنا. حقيقة فعلا مؤلمة .

ــــــــــتنويه: نُشر المقال في العدد 17 من مجلة التحالف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *