م. يحيى حسين عبد الهادي يكتب مقال سابق لا يزال صالحًا للنشر: الكلام الساكت والدولة البكماء
———————————-
(الحاكمُ يَضْرِبُ بالطَبْلَهْ .. وجميعُ وزارت الإعلام تَدُقُّ على ذاتِ الطبلَهْ .. وجميعُ وكالاتِ الأنباء تُضَخِّمُ إيقاعَ الطَبْلَهْ .. والصحفُ الكُبْرى والصُغْرَى تعمل أيضاً راقصةً في ملهى تملكهُ الدولَهْ .. لا يُوجَدُ صَوْتٌ في المُوسيقى أردأُ من صَوْت الدولَهْ .. هل ثمّةَ قَهْرٌ في التاريخ كهذا القهرْ؟ الطَبْلةُ تخترقُ الأعصابَ .. فيا ربّي: ألْهِمْنَا الصبرْ.)- نزار قباني فى قصيدة “عزفٌ منفردٌ على الطبلة”.
(الكلام الساكت) هو التعبير الذى أبدعه الأشقاء السودانيون فى الإشارة لذلك النوع من الكلام الذى لا معنى له .. تتحرك به الشفاه والألسنة لكنها فى الحقيقة لا تقول شيئاً .. وتخط به الأقلامُ آلاف المقالات الفارغة التى تملأ الصُحُف ولا تقرأُ فيها شيئاً وكأنها كُتِبَت بالحبر السرى .. وتثرثر به ألسنة مذيعى البرامج وضيوفهم وتعلو أصواتهم على عشرات الفضائيات فى اللا موضوع وكأنك أمام مذيعٍ واحدٍ مستنسخ له أشكالٌ متعددةٌ وصوتٌ واحدٌ هو صوت السكون .. انظر إلى الأبيات التالية:
الأرضُ أرضٌ والسماءُ سماءُ …. والماءُ ماءٌ والهواءُ هـواءُ
والبحرُ بحرٌ والجبالُ رواسخٌ …. والنورُ نورٌ والظلامُ عَـمَاءُ
والحَرُّ ضد البرد قولٌ صادقٌ …. والصيف صيفٌ والشتاءُ شتاءُ
كلُ الرجالِ على العمومِ مُذَّكَرٌ …. أما النساءُ فكُلُهُنَّ نساءُ
هل يمكن أن نُسَمِّى هذا الذى قاله ابن سودون شِعراً حتى لو التزم بقواعد العَرُوض؟ هو كلامٌ مرصوصٌ موزونٌ ومُقَفَّى لكنه بلا نبضٍ ولا يُضيف شيئاً .. وهو بالقطع ليس شعراً وإنما هو (كلامٌ ساكت) .. ألم تستشعر أنك تستمع لهذا الهراء وأنت تنتقل بالريموت بين عشرات القنوات المحلية؟! .. وقُلْ مثل ذلك عن الصحف والأعمال الفنية .. من الأمور الخادعات أن يشدو بهذا الهراء صوتٌ عذبٌ يتصنع المهنية .. لكن ما يفوق قدرتنا على الاحتمال أنه صار يأتينا بصوت الليمبى!.
يقول الكاتب الراحل مصطفى الحسينى فى مقالٍ له (يتهدد المجتمعُ بالموت عندما يصبح الكلام الساكت لغة المثقفين .. عندما يستغرق المثقفون في التبرير والتبخير .. عندما يستسلمون لتلقي التوجيهات .. عندما يقبلون الالتزام “بالخط” .. يتهدد الموت المجتمع عندما يكف المثقفون عن الاعتراض .. الاعتراض هو شرارة الجدل).
رَحِمَ اللهُ مصطفى الحسينى الذى أثبتت التجارب صحة ما قاله .. ومن المؤسف أن إعلام الطبلة والتخلف العقلى قد نجح بطريقة (الزنِّ على الودان) فى تشويه قِيَمٍ إنسانيةٍ بديهيةٍ لدى قطاعٍ كبيرٍ من المواطنين بعد وَصْمِ المنادين بها بالعمالة والخيانة والجيل الرابع والطابور الخامس ومجلس إدارة العالم إلى آخر هذه الترهات، حتى صارت حقوق الإنسان عند بعض العامة مُرادفاً للمؤامرة على الوطن، وصار احترامُ الدستور نوعاً من السذاجة، ثم استدار ليركّز سهامه على حرية التعبير مِنحة الله للإنسان، فما يكاد أحدٌ ينطق بها إلا ويُواجَه بالصرخة الأكلاشيه (عاوزينا نسقط زى العراق وسوريا وليبيا؟) وهى عبارةٌ تتجاوز الكذب البواح إلى امتهان عقول مستمعيها .. وهل كان فى هذه الدول الحبيبة أى مساحةٍ من حرية التعبير؟ .. هذه الدول بالذات لم تُسقطها الديمقراطية وإنما أسقطها الكلامُ الساكتُ .. الكلامُ الساكتُ والصوت الواحد هو البديلُ الديكتاتورى لحرية التعبير .. كان فى هذه الدول عشرات المنصات التى لا تنطق إلا بعبقرية الزعيم الفلتة فكان طبيعياً أن تسقط .. لأن الصمت يُفاقم الأخطاء .. هذه الدول جمع بينها نفس الداء .. اعتبارُ كلِ نقدٍ خيانة وكل صوتٍ مختلفٍ عمالة .. هذه دولٌ لم تُسقطها حرية التعبير وإنما أسقطها قَطعُ الألسنة وإذابة أيدى الكُتاب فى الحامض وتهشيم أنامل رسامى الكاريكاتير .. كل الدول عُرضةٌ للتآمر بلا شك، ولكن الدول التى لا تُحَصِّن نفسها بالديمقراطية تُسّهِّلُ على أعدائها مهمة تدميرها.
أتحدى أن يدلنا أحدٌ على دولةٍ واحدةٍ فى العالم أسقطتها أو عَطَلَّت نموها الديمقراطية وحرية الرأى .. لكن ما أكثر الدول التي هَوَى بها للقاع الكلامُ الساكتُ وصُنَّاعُ الطغاة .. فاللهم احفظ مصر ولا تُسكِت للمصريين صوتاً ولا قلماً ولا ضميراً .. فالشعوب البَكْمَاء لا يغادرها الطغاة.
(مقالٌ سَبَقَ نشره قبل اعتقالى بتصرف ولا يزال صالحاً للأسف)
١٣ ديسمبر ٢٠٢٢
28m